في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

135

ثم يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين ، المخذل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة . . يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين ، مصحوبة بالتهوين من شأنهم ، وبوعيد الله لهم :

( إن المنافقين يخادعون الله - وهو خادعهم - وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك . لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ) .

وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة . فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون الله . فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه - لا يخدع - وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير . ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين !

ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله ( وهو خادعهم ) . . أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم ؛ لا يقرعهم بمصيبة تنبههم ؛ ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم . . تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا . . وذلك هو خداع الله - سبحانه - لهم . . فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من الله ، حين تصيب العباد ، فتردهم سريعا عن الخطأ ؛ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . . وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من الله للمذنبين الغاوين ؛ لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير ؛ حتى ينتهوا إلى شر مصير .

ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة ؛ لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار :

( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلًا ) فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله ، والوقوف بين يديه ، والاتصال به ، والاستمداد منه . . إنما هم يقومون يراءون الناس . ومن ثم يقومون كسالى ، كالذي يؤدي عملا ثقيلا ؛ أو يسخر سخرة شاقة ! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلا . فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس ! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس .

وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين . تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز ، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين ؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية . . وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم ؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم . والمناسبةُ ظاهرة . وتأكيد الجملة بحرف ( إنّ ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله : { وهو خادعهم } .

وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة ( 9 ) عند قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } وزادت هذه الآية بقوله : { وهو خادعهم } أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعاً لله تعالى ، كان إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم ، وإنذارهُ المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقديرُ أخذه إيّاهم بأخَرَة ، شبيهاً بفعل المخادع جزءاً وفاقاً . فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم أستعارة تمثيلية ، وحسنَّتَهْا المشاكلة ؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقَعْمَق .

قالوا :

اقترحْ شيئاً نجد لك طبخه *** قلتُ : أطبخوا لي جُبَّةً وقَميصاً

و« كُسالى » جمع كسلان على وزن فُعالى ، والكَسلان المتّصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمةٍ أو كراهية . والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين . ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا " . ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بِشَرهٍ وعزم ، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيباً حتّى تتمكّن منها الكراهِية ، ولا خطَر على النفس مثلُ أن تكره الخير .

و« كسالى » حال لازمة من ضمير { قاموا } ، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جواباً ل« إذا » التي شرطها « قاموا » ، لأنّه لو وقع مجرّداً لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى : { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقول الأحوص الأنصاري :

فإذا تَزُولُ تَزُولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادره على الأقران

وجملة { يراءَون الناس } حال ثانية ، أو صفة ل ( كسالى ) ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ماذا قَصْدُهم بهذا القيام للصلاة وهلاّ تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنّهم يُراءون بصلاتهم الناس . { ويُراءون } فعل يقتضي أنّهم يُرون الناس صلاتهم ويُريهم الناس . وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة .

وقوله : { ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً } معطوف على { يُراءُون } إن كان { يراءون } حالاً أو صفة ، وإن كان { يراءون } استئناف فجملة { ولا يذكرون } حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة ألاّ قليلاً .

فالاستثناء إمّا من أزمنة الذكر ، أي إلاّ وقتاً قليلاً ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذٍ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر { يذكرون } ، أي إلاّ ذكراً قليلاً في تلك الصلاة التي يُراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسْبيحِ الركوع ، وقراءةِ ركعات السرّ . ولك أن تجعل جملة { ولا يذكرون } معطوفة على جملة { وإذا قاموا } ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلاّ حالا قليلاً أو زمناً قليلاً وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرَهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه .