أحدهما : أنها استفهامية ، فتكون في محل نصب ب " يَفْعَل " وإنما قُدِّم ؛ لكونه له صدر الكلام ، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب " يَفْعَلُ " ، والاستفهام هنا معناه النفيُ ، والمعنى : أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً ؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً ، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا ، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ ؟ [ والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح ] .
والثاني : أن " مَا " نافية ؛ كأنه قيل : لا يُعذِّبُكُمُ الله ، وعلى هذا : فالباء زائدة ، ولا تتعلَّق بشيءٍ . [ قال شهاب الدين : ]{[10182]} وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ ، فينبغي أن تكون سببيةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما ؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ ، فلا فرق .
وقال البَغَوِي{[10183]} : هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه : إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر ، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [ والشُّكْرُ ضد الكُفر ، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا ]{[10184]} ، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ .
وقوله " إِن شَكَرْتُمْ " جوابُهُ مَحْذُوفٌ ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ، أي : إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم .
فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية ؟
وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه :
الأول : على التَّقْدِيم والتَّأخير ، أي : آمَنْتُم وشكرْتُم ؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ{[10185]} على سَائِر الطَّاعَاتِ ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ .
الثاني : أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ .
الثالث : أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها ، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا ، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم ، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً{[10186]} ، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ .
اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن ، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا ، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ .
قالت المُعْتَزِلَة : دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [ وتعالى ]{[10187]} - ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب{[10188]} والعِقَابِ ؛ لأن قوله : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ .
ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد ، وليس{[10189]} ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير : ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم ، وذلك غير مُنْتَظِم .
وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك . ثم قال { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } أمرَهُمْ بالشُّكْرِ ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً ، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه ، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة ، والمُراد من كونه عَلِيماً : أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات ، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة ، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.