اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا} (147)

في " مَا " وجهان :

أحدهما : أنها استفهامية ، فتكون في محل نصب ب " يَفْعَل " وإنما قُدِّم ؛ لكونه له صدر الكلام ، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب " يَفْعَلُ " ، والاستفهام هنا معناه النفيُ ، والمعنى : أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً ؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً ، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا ، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ ؟ [ والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح ] .

والثاني : أن " مَا " نافية ؛ كأنه قيل : لا يُعذِّبُكُمُ الله ، وعلى هذا : فالباء زائدة ، ولا تتعلَّق بشيءٍ . [ قال شهاب الدين : ]{[10182]} وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ ، فينبغي أن تكون سببيةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما ؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ ، فلا فرق .

وقال البَغَوِي{[10183]} : هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه : إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر ، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [ والشُّكْرُ ضد الكُفر ، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا ]{[10184]} ، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ .

وقوله " إِن شَكَرْتُمْ " جوابُهُ مَحْذُوفٌ ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ، أي : إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم .

فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية ؟

وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه :

الأول : على التَّقْدِيم والتَّأخير ، أي : آمَنْتُم وشكرْتُم ؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ{[10185]} على سَائِر الطَّاعَاتِ ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ .

الثاني : أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ .

الثالث : أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها ، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا ، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم ، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً{[10186]} ، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ .

فصل

اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن ، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا ، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ .

فصل

قالت المُعْتَزِلَة : دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [ وتعالى ]{[10187]} - ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب{[10188]} والعِقَابِ ؛ لأن قوله : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ .

ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد ، وليس{[10189]} ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير : ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم ، وذلك غير مُنْتَظِم .

وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك . ثم قال { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } أمرَهُمْ بالشُّكْرِ ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً ، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه ، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة ، والمُراد من كونه عَلِيماً : أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات ، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة ، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ .


[10182]:ينظر: الدر المصون 2/450.
[10183]:ينظر: تفسير البغوي 1/493.
[10184]:سقط في أ.
[10185]:في ب: متقدم.
[10186]:في ب: منفصلا.
[10187]:سقط في أ.
[10188]:في ب: العذاب.
[10189]:في ب: فليس.