التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا} (147)

ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر رحمته بعابده ، وفضله عليهم فقال - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } .

و { مَّا } استفهامية . المراد بالاستفهام هنا النفى والإِنكار على أبلغ وجه وآكده والجملة الكريمة استئنافية مسوقة لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم ومعاصيهم لا لشئ آخر .

والمعنى : أى منفعة له - سبحانه - فى عذابكم وعقوبتكم إن شكرتم نعمه ، وأديتم حقها ، وآمنتم به حق الإِيمنا ؟ لا شك أنه - سبحانه - لا يفعل بكم شيئا من العذاب ما دام الشكر والإِيمان واقعين منكم ؛ فقد اقتضت حكمته - سبحانه - أن لا يعذب إلا من يستحق العذاب ، بل إنه - سبحانه - قد يتجاوز عن كثير من ذنوب عباده رحمة منه وفضلا .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : قوله { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } أيتشفى به من الغيظ ؟ أم يدرك به الثأر ؟ أم يستجلب به نفعا ؟ أم يستدفع به ضرراً ؟ كما هو شأن الملوك . وهو الغنى المتعالى الذى لا يجوز عليه شئ من ذلك . وإنما هو أمر اقتضته الحكمة أن يعاقب المسئ . فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب .

و { مَّا } فى محصل نصب ب { يَفْعَلُ } لأن الاستفهام له الصدارة . والباء فى قوله { بِعَذَابِكُمْ } سببية متعلقة بيفعل . والاستفهام هنا معناه النفى كما سبق أن أشرنا . وعبر عن النفى بالاستفهام للإِشارة إلى أنه - سبحانه - ربت الجزاء على العمل ؛ وأنه يجب على كل عاقبل أن يدرك أن عدالة الله قد اقتضت أنه - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأن لا يعذب إلا من يستحق العذاب ، ويعفو عن كثير من السيئات بفضله ومنته .

وقوله : { إِن شَكَرْتُمْ } جوابه محذوف دل عليه ما تقدم . أى : إن شكرتم وآمنتم فما الذى يفعله بعذابكم ؟

وقدم الشكر على الإِيمان ، لأن الشكر سبب فى الإِيمان ، إذ الإِنسان عندما يرى نعم الله ، ويتفكر فيها يوقدرها حق قدرها ، يسوقه ذلك إلى الإِيمان الحق ، فالشكر يؤدى إلى الإِيمان والإِيمان متى رسخ واستقر فى القلب ارتفع بصاحبه إلى أسمى ألوان الشكر وأعظمها . فعطف الإِيمان على الشكر من باب عطف المسبب على السبب .

وقوله : { وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } تذييل قصد به تأكيد ما سبق من الله - تعالى - لا يعذب عباده الشاكرين المؤمنين .

أى : وكان الله شاكراً لعباده على طاعتهم . أي مثيبهم ومجازيهم الجزاء الحسن على طاعتهم ، عليما بجميع أقوالهم وأفعالهم ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه . فالمراد بالشكر منه - سبحانه - مجازاة عباده بالثواب الجزيل على طاعتهم له ووقوفهم عند أمره ونهيه .

وسمى - سبحانه - ثواب الطائعين شكراً منه ، للتنويه بشأن الطاعة ، وللتشريف للمطيع ، ولتعليم عباده يشكروا للمحسنين إحسانهم . فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله ، ورحم الله الإِمام ابن القيم حيث يقول :

وهو الشكور . فلن يضيع سعيهم . . . لكن يضاعفه بلا حسبان

ما للعباد عليه حق واجب . . . هو أوجب الأجر العظيم الشأن

كلا ولا عمل لديه بضائع . . . إن كان بالإِخلاص والإِحسان

إن عذبوا فبعدله ، أو نعموا . . . فبفضله ، والحمد للرحمن

وإلى هنا نرى أن الآيات الكريمة التى بدأت بقوله - تعالى - { بَشِّرِ المنافقين } قد كشفت عن حقيقة النفاق والمنافقين فى المجتمع الإِسلامي ، وأماطت اللثام عن طباعهم المعجة ، وأخقلاهم القبيحة ، ومسالكهم الخبيثة ، وهممهم الساقطة ، ومصيرهم الأليم . وذلك لكى يحذرهم المؤمنون ، ويتنبهوا إلى مكرهم وسوء صنيعهم . ثم نرى الآيات الكريمة خلال ذلك تفتح باب التوبة للتائبين من المنفقين وغيرهم وتعدهم إن تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله بالأجر العظيم . وأخيرا تجئ تلك اللفتة العجيبة المؤثرة العميقة . أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع الذى توعد الله به المنافقين ، وبعد ذكر الأجر العظيم الذى وعد الله به المؤمنين . أخيرا بعد كل ذلك تجئ الآية الكريمة التى تنفى بأبلغ أسلوب أن يكون هناك عذاب من الله لعباده الشاكرين المؤمنين ، لأنه - سبحانه - وهو الغنى الحميد ، قد اقتضت حكمته وعدالته أن لا يعذب إلى من يستحق العذاب ، وأنه - سبحانه - سيجازى الشاكرين المؤمنين .

بأكثر مما يستحقون من خير عميم ، ونعيم مقيم ، وما أحكم قوله - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } إنها الآية كريمة تخص الناس على أن يقبولا على ربهم بقلب سليم فيعبدوه حق العبادة ، ويطيعوه حتى الطاعة لينالوا ثوابه وجزاءه الحسن ؛ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً }