( قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? ) . .
فينزل كتاباً ، ويرسل رسولاً ، ويضع نظاماً ، ويشرع شريعة ، وينذر ويوجه إلى الخير ؛ ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس ؛ ويوقظ القلوب الغافلة ، ويحرك المدارك المعطلة . كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق ? وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم ، ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم . فليقررها لهم الرسول [ ص ] وليأخذهم بها :
ومن هذه تنشأ قضية جديدة ، جوابها مقرر :
( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ? أم من لا يهدي إلا أن يهدى ? ) . .
والجواب مقرر . فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع ، ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره . .
وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجاراً أو كواكب . أو كانوا من البشر - بما في ذلك عيسى عليه السلام ، فهو ببشريته محتاج إلى هداية اللّه له ، وإن كان هو قد بعث هاديا للناس - ومن عدا عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه :
( فما لكم ? كيف تحكمون ? ) . .
ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم ? وكيف تقدرون الأمور ، فتحيدون عن الحق الواضح المبين ?
وقوله تعالى { قل هل من شركائكم من يهدي } الآية ، { يهدي إلى الحق } يريد به : يبين الطرق والصواب ويدعو إلى العدل ويفصح بالآيات ونحو هذا ، ووصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت ، فوجه ذلك أنه عامل في العبارة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن ، وذكر ذلك أبو علي الفارسي ، والذي أقول : أن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى أمن لا يهدي أحداً إلا أن يهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله ، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها «أمن لا يهتدي إلا أن يهدى » فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير ، وقال بعضهم : هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل ، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إلى مناكرة الكفار يوم القيامة ، حسبما مضى في هذه السورة ، وقراءة حمزة والكسائي هي «يَهْدي » بفتح الياء وسكون الهاء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وشيبة والأعرج وأبو جعفر «يَهْدّي » بسكون الهاء وتشديد الدال{[6106]} ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يَهَدي » بفتح الياء والهاء ، وهذه أفصح القراءات ، نقلت حركة تاء «يهتدي » إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال ، وهذه رواية ورش عن نافع وقرأ عاصم في رواية حفص «يَهِدّي » بفتح الياء وكسر الهاء وشد الدال ، أتبع الكسرة الكسرة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، «يِهِدّي » بكسر الياء والهاء وشد الدال وهذا أيضاً إتباع وقال مجاهد : الله يهدي من الأوثان وغيرها ما شاء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقرأ يحيى بن الحارث الزماري . «إلا أن يهَدّي » بفتح الهاء وشد الدال ، ووقف القراء { فما لكم } ، ثم يبدأ { كيف تحكمون }{[6107]} .
هذا تكرير آخر بعد قوله : { قل هل من شركائكم من يَبدأ الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] . وهذا استدلال بنقصان آلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق ، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق ، ومجموع الجملتين مفيد قَصْر صفة الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم قصرَ إفراد ، كما تقدم في نظيره آنفاً . ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويّهم على ضعيفهم ، ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة في مضمحلة .
والمراد بالحق الدين ، وهو الأعمال الصالحة ، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح .
وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم عليه السلام { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] وقول موسى عليه السلام { ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هَدى } [ طه : 50 ] وقوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى } [ الأعلى : 1 3 ] . وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق ، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية .
وقوله : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع } إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم . وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح ، والأرواح مراد منها الاهتداء ، فالمقصود الأعلى هو الهداية . وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطإ وهو جانب الله تعالى ، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري ، فاتباعه واجب عقلاً واتباع غيره لا مصحح له ، إذ لا غاية ترجى من اتباعه . وأفعال العقلاء تصان عن العبث .
وقوله : { أمّن لا يَهدّي إلا أن يُهدى } أي الذي لا يهتدي فضلاً عن أن يَهدي غيره ، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع .
والمراد ب { من لا يهدي } الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء ، كما قال إبراهيم { يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] .
وقد اختلف القراء في قوله : { أمَّن لا يَهدي } فقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو بفتح التحتية وفتح الهاء على أن أصله يهتدي ، أبدلت التاء دالاً لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى الهاء الساكنة ( ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع إلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح الهاء مختلساً بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافاً في القراءة ) .
وقرأ حفص عن عاصم ، ويعقوبُ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على الهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر الباء وكسر الهاء بإتباع كسرة الياء لكسرة الهاء . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال على أنه مضارع هَدَى القاصر بمعنى اهتدى ، كما يقال : شَرى بمعنى اشترى .
والاستثناء في قوله : { إلا أن يُهدى } تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده . وأريد بالهَدْي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها ، فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية ، ورُمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في { لا يهدي إلا أن يهدى } .
وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل { إلا أن يهدى } بمعنى إهداء العروس ، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها ، فيقال : هديت إلى زوجها .
وجملة : { فمالكم كيف تحكمون } تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال . واتباعهم هو عبادتهم إياهم .
ف { ما } استفهامية مبتدأ ، و { لكم } خبر ، واللام للاختصاص . والمعنى : أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلاً من مكان إلى مكان .
وقوله العرب : مالك ؟ ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه . وفي الحديث أن رجلاً قال للنبيء صلى الله عليه وسلم دُلني على عمل يُدخلني الجنة ، فقال الناس : « مَا لَه مَا لَه » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرَبٌ مَّا له " . فإذا كان المستفهم عنه حالاً ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد ( مَا له ) كما وقع في الحديث .
وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال : { ما لكم } : كلام تام ، أي أي شيء لكم في عبادة الأوثان .
قال ابن عطية : ووقف القراء { فما لكم } ثم يبدأ { كيف تحكمون } .
وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى : { ما لكم لا تناصرون } [ الصافات : 25 ] { فما لهم عن التذكرة معرضين } [ المدثر : 49 ] ولذلك قال بعض النحاة : مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده ، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي .
وجملة : { كيف تحكمون } استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة : { ما لكم } من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب . ولك أن تجعل هذه الجملة دليلاً على حال محذوفة .