ولكن الملائكة لا يأكلون طعام أهل الأرض :
( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ) . .
فالذي لا يأكل الطعام يريب ، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرا بحسب تقاليد أهل البدو . . وأهل الريف عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ، أي من خيانة من أكلوا معه طعاما ! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شرا ، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم . . وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم :
وقوله تعالى : { فلما رأى أيديهم } الآية ، روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا ؟
قال القاضي أبو محمد : وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر ، فروي أن أعرابياً أكل مع سليمان بن عبد الملك ، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له : أزل الشعرة عن لقمتك ، فقال له : أتنظر إلي نظر من يرى الشعر في لقمتي والله لا أكلت معك{[6425]} .
و { نكرهم } - على ما ذكر كثير من الناس - معناه : أنكرهم ، واستشهد لذلك بالبيت الذي نحله أبو عمرو بن العلاء الأعشى وهو : [ البسيط ]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت*** من الحوادث إلا الشيب والصلعا{[6426]}
وقال بعض الناس : «نكر » هو مستعمل فيما يرى بالبصر فينكر ، وأنكر هي مستعملة فيما لا يقرر من المعاني ، فكأن الأعشى قال : وأنكرتني مودتي وأدمتي{[6427]} ونحوه ، ثم جاء ب «نكر » في الشيب والصلع الذي هو مرئي بالبصر ، ومن هذا قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
فنكرنه فنفرن وامترست به*** هوجاء هادية وهاد جرشع{[6428]}
والذي خاف منه إبراهيم عليه السلام ما يدل عليه امتناعهم من الأكل ، فعرف من جاء بشر أن لا يأكل طعام المنزول به ، و { أوجس } معناه أحس في نفسه خيفة منهم ، و «الوجيس » : ما يعتري النفس عند الحذر وأوائل الفزع ، فأمنوه بقولهم : { لا تخف } وعلم أنهم الملائكة .
{ لا تصل إليه } أشد في عدم الأخذ من ( لا تتناوله ) .
ويقال : نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه .
وإنّما نكرهم لأنّه حسب أنّ إمساكهم عن الأكل لأجل التبرّؤ من طعامه ، وإنّما يكون ذلك في عادة النّاس في ذلك الزّمان إذا كان النّازل بالبيت يضمر شرّاً لمضيّفه ، لأنّ أكل طعام القرى كالعهد على السّلامة من الأذى ، لأنّ الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة ، فإذا انكفّ أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنّه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفوراً للإحسان .
ولذلك عقب قوله { نكرهم } ب { أوجس منهم خيفة } ، أي أحسّ في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك . ومصدره الإيجاس . وذلك أنّه خشي أن يكونوا مضمرين شرّاً له ، أي حسبهم قطّاعاً ، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم عليه السّلام وحده .
وجملة { قالوا لا تخف } مفصولة عمّا قبلها ، لأنّها أشبهت الجواب ، لأنّه لمّا أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه ، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إنّي خفت منكم ، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم : { لا تَخف } ، فحكي ذلك عنهم بالطّريقة الّتي تحكى بها المحاورات ، أو هو جواب كلام مقدّر دلّ عليه قوله : { وأوجس منهم خيفة } ، أي وقال لهم : إنّي خفت منكم ، كما حكي في سورة [ الحجر : 52 ] { قال إنّا منكم وَجِلون } ومن شأن النّاس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له : لعلّك غادر أو عَدوّ ، وقد كانوا يقولون للوافد : أحَرْبٌ أم سِلْمٌ .
وقولهم : { إنّا أرسلنا إلى قوم لوط } مكاشفة منهم إيّاه بأنّهم ملائكة . والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم .
والحكمةُ من ذلك كرامة إبراهيم عليه السّلام وصدورهم عن علم منه .
وحذف متعلّق { أرسلنا } أي بأي شيء ، إيجازاً لظهوره من هذه القصّة وغيرها .
وعبّر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة { قوم لوط } إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطاً من فصائل عرفوا بأسماء قراهم ، وأشهرها سدوم كما تقدّم في الأعراف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.