في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

9

فأما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل ، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه ؛ وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق . . والله سبحانه يؤكد مجيئها : ( إن الساعة آتية )وأنه يكاد يخفيها . فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم . . والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي . فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه . ولو كان كل شيء مكشوفا لهم - وهم بهذه الفطرة - لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم . فوراء المجهول يجرون . فيحذرون ويأملون ، ويجربون ويتعلمون . ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم ؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق ؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا . . وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد ، يحفظهم من الشرود ، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة ، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم . ذلك لمن صحت فطرته واستقام .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

في قوله { إن الساعة آتية } تحذير ووعيد ، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد ، و { الساعة } في هذه الآية القيامة بلا خلاف ، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم{[8087]} «أكاد أخفيها » بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم ، والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

خفاهن من أنفاقهن كأنما . . . خفاهن ودق من سحاب مجلّب{[8088]}

ومنه قوله أيضاً : [ المتقارب ]

فإن تدفنوا الداء لا نخفه . . . وإن توقدوا الحرب لا نقعد{[8089]}

قال أبو علي : المعنى : أزيل خفاءها ، وهو ما تلف به القربة ونحوها . وقرأ الجمهور «أُخفيها » بضم الهمزة ، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة : معناه أظهرها وأخفيت من الأضداد ، وهذا قول مختل ، وقالت فرقة معناه ، { أكاد أخفيها } من نفسي على معنى العبارة من شدة غموضها على المخلوقين ، فقالت فرقة : المعنى { إن الساعة آتية أكاد } وتم الكلام بمعنى { أكاد } أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأن يخفيها{[8090]} ، وهذا قلق ، وقالت فرقة { أكاد } زائدة{[8091]} لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس ، وقالت فرقة { أكاد } بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم { لتجزى كل نفس بما تسعى } واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر : [ الكامل ]

كادت وكدت وتلك خير إرادة . . . {[8092]} وقد تقدم هذا المعنى ، وقالت فرقة { أكاد } على بابها بمعنى أنها متقاربة ما لم يقع ، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها ، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال { أكاد أخفيها } حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها ، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي ، ورأى بعض القائلين بأن المعنى { أكاد أخفيها } من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيراً فتأمله ، واللام في قوله { لتجزى } متعلقة ب { آتية } وهكذا يترتب الوعيد . و { تسعى } معناه تكسب وتجترح .


[8087]:أي: في رواية أبي بكر عنه، أما رواية حفص فهي بالضم كالجمهور.
[8088]:البيت من قصيدة امرئ القيس (خليلي مرا بي على أم جندب) التي قالها في وصف الفرس، وعارضه علقمة بأخرى مثلها، وفضلت (أم جندب) زوجة امرئ القيس علقمة على زوجها، فطلقها. وضمير الفاعل في (خفاهن) يعود على الفرس الذي يصفه امرئ القيس، أما المفعول فيها عائد على (اليرابيع) التي عبر عنها بالفأر في البيت السابق، ومعنى خفاهن: أخرجهن أو أظهرهن، والأنفاق: جمع نفق، وهو السرب تحت الأرض، يريد الأنفاق التي اختبأت فيها الفئران تحت الأرض، والودق: المطر، والمجلب: الذي له جلبة وضجيج، وروي: "من سحاب مركب"، يقول: إن الفرس من شدة جريه وركضه قد أخرج الفئران من أنفاقها، كأنما أخرجها دوي المطر الشديد وجلبته. والشاهد أن (خفى) بمعنى: أظهر وأخرج.
[8089]:هذا البيت أنشده الفراء في (معاني القرآن)، وهو في اللسان، والتاج، والقرطبي، ومجاز القرآن، والطبري، وهو من قصيدة امرئ القيس التي يتهدد فيها بني أسد، والتي بدأها بقوله: تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقد ورواية الفراء (لا نخفه) بفتح النون، من خفيته أخفيه، وهذا هو موضع الشاهد هنا كما أراد ابن عطية، ولكن البيت روي بضم النون في (لا نخفه)، ومعناها: لا نظهره، كما قال الطبري، وقال: إن الذين وجهوا الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار اعتمدوا على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت على ما وصفت من ضم النون، ولكن الصواب أنه بفتح النون". والآراء كثيرة في معنى قوله تعالى: {أكاد أخفيها}. وقد ذكر المؤلف أكثرها.
[8090]:واستشهدوا لذلك بقول ضابئ بن الحارث البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي أقاربه وذلك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد تأديبه لفحشه وهجائه للناس، فلما دعي ليقابل الخليفة ربط سكينا إلى ساقه ليقتله بها، لكن أمره افتضح فضرب ووضع في السجن، وقد مات فيه. والشاهد في قوله: (كدت)، أي: كدت أفعل ما نويت من قتل عثمان، وعلى هذا قالوا: إن معنى الآية: إن الساعة آتية أكاد آتي بها، ثم ابتدأ سبحانه وتعالى فقال: ولكني أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى.
[8091]:كذلك استشهد هؤلاء بكثير من الشعر، ومما استشهدوا به قول ذي الرمة: إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح والنأي: البعد، ورسيس الهوى: أوله، أو ما خفي منه، أو مسه، فالمعنى عندهم: "لم يبرح رسيس الهوى من حب مية" وعلى هذا تكون (يكد) زائدة، ويؤيد هذا الرواية الأخرى التي ذكرها اللسان في البيت، وهي: (لم أجد رسيس الهوى)، والحقيقة أن لهذه الرواية خبرا، فقد انتقد ابن شبرمة قاضي البصرة ذا الرمة حين سمعه ينشد القصيدة في المربد، فعدل ذو الرمة إلى الرواية الثانية، لكن أكثر النقاد قالوا: إن بديهة ذي الرمة في الرواية الأولى أجود من رويته وتفكيره في الثانية، وقالوا: إن معنى لم يكد): لم يقرب، وإن نفي مقاربة الشيء أبلغ من = نفي الشيء، فيكون معنى البيت: إذا غير البعاد قلوب المحبين فبعاد مية عني لا يذهب بما أحس لها من حب مقيم، ولا يقارب حتى أن يذهب به.
[8092]:هذا صدر بيت، وهو بتمامه: كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عهد الصبابة ما مضى وقد سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه} الآية (90) من سورة (مريم) ـ وهو في اللسان (كيد)، وهو شاهد على أن (كاد) بمعنى (أراد)، ومثله في ذلك ما أنشده أبو بكر للأفوه الأودي: فإن تجمع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا أي: الأمر الذي أرادوا. (راجع اللسان والتاج).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية "أكادُ أُخْفِيها"... بمعنى: أكاد أخفيها من نفسي، لئلا يطلع عليها أحد... عن ابن عباس، قوله: "أكادُ أُخْفِيها "يقول: لا أظهر عليها أحدا غيري...

وقال آخرون: إنما هو: «أكادُ أَخْفِيها» بفتح الألف من أَخفيها بمعنى: أظهرها...

والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفيها من نفسي، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء...

فإن قال قائل: ولم وجهت تأويل قوله "أكادُ أُخْفِيها" بضم الألف إلى معنى: أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين: أحدهما الإظهار والآخر الكتمان، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه، إذ كان محالاً أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم، والله تعالى ذكره لا تخفى عليه خافية؟ قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجّهنا معنى أُخْفِيها بضمّ الألف إلى معنى: أسترها من نفسي، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفيت الشيء: إذا سترته... فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من أَخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك: أكاد استرها من نفسي.

وأما وجه صحة القول في ذلك، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ: قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم، وما قد عرفوه في منطقهم. وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا، وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم، فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر. فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين، وعلى وجه يحتمل الكلام غير وجهه المعروف، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم، فقال بعضهم: يحتمل معناه: أريد أخفيها... فيكون المعنى: أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الساعة آتية أكاد، قال: وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه: أكاد أن آتي بها قال: ثم ابتدأ فقال: ولكني أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى...

وقال آخرون: معنى أُخفيها: أظهرها، وقالوا: الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار... وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال: معنى ذلك: أكاد أخفيها من نفسي، أن يكون أراد: أخفيها من قِبلي ومن عندي.

وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه.

وقوله: "لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى" يقول تعالى ذكره: إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس يقول: لتثاب كلّ نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى، يقول: بما تعمل من خير وشرّ، وطاعة ومعصية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {أكاد أخفيها}... أي أخفيها من أخيار عبادي مع عظيم قدرهم ومنزلتهم عندي: من نحو الملائكة والأنبياء والرسل. إن من عادة ملوك الأرض أنهم لا يكتمون سرائرهم من خواصهم، بل يطلعونهم على ذلك. فأخبر عز وجل، والله أعلم، أنه أخفاها من خواص عباده وأخيارهم. فكيف من دونهم؟...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

...والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

... الفائدة في تعريف العِباد بِقُرْب الساعةِ أن يستفيقوا من غفلات التفرقة...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

في قوله {إن الساعة آتية} تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و {الساعة} في هذه الآية القيامة بلا خلاف...

قالت فرقة {أكاد} على بابها بمعنى أنها متقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أتبعه بقوله: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله {لذكري} أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك: {إن الساعة آتية} لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة...

ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت؟ الجواب: لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وإنه لا يجوز...

أما قوله: {لتجزي كل نفس بما تسعى}: إنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم علل الأمر بالعبادة بأنه لم يخلق الخلق سدى، بل لا بد من إماتتهم، ثم بعثهم لإظهار العظمة ونصب موازين العدل، فقال مؤكداً لإنكارهم معبراً بما يدل على سهولة ذلك عليه جداً: {إن الساعة ءاتية} أي لا ريب في إتيانها، فهي أعظم باعث على الطاعة. ولما كان بيان حقيقة الشيء مع إخفاء شخصه ووقته وجميع أحواله موجباً في الغالب لنسيانه والإعراض عنه، فكان غير بعيد من إخفائه أصلاً ورأساً، قال مشيراً إلى هذا المعنى: {أكاد أخفيها} أي أقرب من أن أجدد إخفاءها، فلذا يكذب بها الكافر بلسانه والعاصي بعصيانه فالكافر لا يصدق بكونها والمؤمن لا يستعد غفلة عنها، فراقبني فإن الأمر يكون بغتة، ما من لحظة إلا وهي صالحة للترقب؛ ثم بين سبب الإتيان بها بقوله: {لتجزى} أي بأيسر أمر وأنفذه {كل نفس} كائنة من كانت {بما تسعى} أي توجد من السعي في كل وقت كما يفعل من أمر ناساً بعمل من النظر في أعمالهم ومجازاة كل بما يستحق.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(إن الساعة آتية) وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم.. والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفا لهم -وهم بهذه الفطرة- لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا.. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة {إنَّ السَّاعة ءَاتِيَة} مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.

والساعة: علَم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.

وجملة {أكَادُ أُخْفِيهَا} في موضع الحال من الساعَةَ، أو معترضة بين جملة وعلّتها.

والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.

والمشهورُ في الاستعمال أن « كاد» تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء، فقوله تعالى: {كادُوا يكونون عليه لِبداً} [الجنّ: 19] يدلّ على أن كونهم لِبَداً غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.

ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله {أكاد أُخفيها} غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.

فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها.

وقيل: وقعت {أكَادُ} زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيداً للإخفاء. والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلاّ بغتة.

وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى {أُخْفِيها} بمعنى أظهرها، وقال: همزة {أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءَها. والخفاء: ثوب تلفّ فيه القِربة مستعار للستر.

فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال (كاد) فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: {وما كادوا يفعلون} في سورة البقرة (71).

وقوله {لتجزى} يتعلّق بآتِيَةٌ وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.

واللام في {لِتُجْزى كلُّ نَفْسٍ} متعلّق بآتِيَةٌ.

ومعنى {بِمَا تسعى} بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19).

وفُرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذيرُ من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغتراراً بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله {أكاد أُخفيها} أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يُشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى: {فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً} [الإسراء: 51] وقال: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

والنقطة الأُخرى: إِنّ علّة إِخفاء تاريخ القيامة حسب الآية، هي: (لتجزى كل نفس بما تسعى) وبتعبير آخر: فإِنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعاً من حرية العمل للجميع. ومن جهة أُخرى فإِن وقتها لما لم يكن معلوماً بدقة، ويحتمل أن يكون في أي وقت وساعة، فإِنّ نتيجة هذا الخفاء هي حالة الاستعداد الدائم والتقبل السريع للبرامج التربوية، كما قالوا في فلسفة إِخفاء ليلة القدر: إِن المراد أن يحيى الناس كل ليالي السنة، أو كل ليالي شهر رمضان المبارك، ويتوجهوا إِلى الله سبحانه.