( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ؛ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك . إنما يخشى الله من عباده العلماء . إن الله عزيز غفور ) . .
إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب . لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها . في الثمرات . وفي الجبال . وفي الناس . وفي الدواب والأنعام . لفتة تجمع في كلمات قلائل ، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً ، وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً .
وتبدأ بإنزال الماء من السماء ، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان . ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات ، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها ( فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ) . . وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع گلرسامين في جميع الأجيال . فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر . بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من اضنوع الواحد . فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون !
وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية . ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ، بل إن فيها أحياناً ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها !
( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) . .
والجدد الطرائق والشعاب . وهنا لفتة في النص صادقة ، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها . والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها . مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه ، وهناك جدد غرابيب سود ، حالكة شديدة السواد .
واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ، تهز القلب هزاً ، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة ، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان . ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصراً مشتركاً بين هذه وتلك ، يستحق النظر والالتفات .
الرؤية في قوله { ألم تر } رؤية القلب ، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب ، لأن الحجة بها تقوم ، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة ، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره ، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه ، و { إن } سادت مسد المفعولين الذين للرؤية ، هذا مذهب سيبويه لأن { أن } جملة مع ما دخلت عليه ، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك ، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي { أن } ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } حقاً ، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة ، وقوله { ألوانها } يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك ، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد ، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع ، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً ، و { جدد } جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كأنّ سراته وحدَّة متنه . . . كنائن يحوي فوقهن دليص{[9718]}
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال { جدد } في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية ، وقرأ الزهري «جَدد » بفتح الجيم ، وقوله { وغرابيب سود } لفظان لمعنى واحد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يبغض الشيخ الغربيب »{[9719]} ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} يعني المطر {فأخرجنا به} بالماء {ثمرات مختلفا ألوانها} بيض وحمر وصفر.
{ومن الجبال} أيضا {جدد بيض وحمر مختلف ألوانها} يعني بالجدد الطرائق التي تكون في الجبال منها أبيض وأحمر.
{و} منها {وغرابيب سود} يعني الطوال السود.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء غيثا، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها يقول: فسقيناه أشجارا في الأرض، فأخرجنا به من تلك الأشجار ثمرات مختلفا ألوانها، منها الأحمر، ومنها الأسود والأصفر، وغير ذلك من ألوانها. "وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ "يقول تعالى ذكره: ومن الجبال طرائق، وهي الجدد، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر وسود، كالطرق...
وقوله: "مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها" يعني: مختلف ألوان الجدد، "وَغَرَابِيبُ سُودٍ"، وذلك من المقدّم الذي هو بمعنى التأخير، وذلك أن العرب تقول: هو أسود غربيب، إذا وصفوه بشدّة السواد، وجعل السواد ههنا صفة للغرابيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: أنه جعل عز وجل، طبع الماء مما يلائم ويوافق طباع هذه الثمرات على اختلاف جواهرها وألوانها حتى تكون حياة كل شيء منها وقوامه بهذا الماء، وكذلك جعل طبع هذا الماء ملائما موافقا طباع جميع الخلائق من البشر والدواب، والطير والوحش وجميع الحيوان على اختلاف جواهرهم وأصنافهم وغذائهم حتى صار هو غذاء وحياة لهم وقياما به ليُعلم أن من ملك هذا، وقدر على توفيق هذا على اختلاف ما ذكرنا من الجواهر والأغذية وتدبيره، لا يُعجزه إنشاء شيء من لا شيء، ولا يخفى عليه شيء، وفي ذلك دلالة البعث.
والثاني: أنه أنشأ ما ذكر من مختلف الأشياء والجواهر بهذا الماء، وجعله سببا لحياة ما ذكر من البشر والدّواب وغيره، من غير أن يكون في ذلك الماء الذي أنشأ ذلك منه وجعله سببا لحياتهم من أثر فيه أو من جنسه، ليُعلَم أنه لم يكن إنشاء هذه الأشياء بهذا الماء ولا جعله سببا لها على الاستعانة به والتقوية، بل إعلاما للخلق أسباب مطالب الغذاء والفضل لهم، إذ لو كان على الاستعانة وجعله سببا له في إنشاء ذلك، لكان تكوّن تلك الأشياء المُنشأة مشاكلا للماء مشابها له. دل أنه جعل ذلك سببا للخلق في الوصول إلى ما ذكرنا من الأغذية لهم من غير أن يروا أرزاقهم من تلك الأسباب والمكاسب، ولكن من فضل الله.
والثالث: أنه أنشأ هذه الفواكه والثمرات مختلفة ألوانها وطعومها مما علم من البشر من الملالة والسآمة من نوع واحد ولون واحد؛ ليُتمّ نعمه عليهم ليستأدي بذلك الشكر عليها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بيَّنَ في هذه الآية وأمثالها أن تخصيصَ الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقانِ الفعلِ وإِحكامه شهادة على عِلْمِ الصانِع وأعلامِه.
وكذلك {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ}: بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت مُنْشِيها بنعت الجلال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلْوَانُهَا} أجناسها من الرمّان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها...
{وَمِنَ الجبال جُدَدٌ}: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الرؤية في قوله {ألم تر} رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه.
المسألة الأولى: ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار، وقال:
{ألم تر} وذكر الدليل المتقدم على طريقة الإخبار وقال: {والله الذي أرسل الرياح} وفيه وجهان؛ الأول: أن إنزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر؛ فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض، فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جدا...
المسألة الثانية: المخاطب من هو؟ يحتمل وجهين أحدهما: النبي صلى الله عليه وسلم وفيه حكمة، وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم، قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم...
المسألة الثالثة: هذا استدلال على قدرة الله واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ممرات مختلفة؛ وفيه لطائف؛
الأولى: قال أنزل وقال أخرجنا، قال الله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل} فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم.
ووجه آخر: هو أن الله تعالى لما قال: {أن الله أنزل} علم الله بدليل، وقرب المتفكر فيه إلى الله تعالى فصار من الحاضرين، فقال له أخرجنا لقربه.
ووجه ثالث: الإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب...
اللطيفة الثانية: قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك} كأن قائلا قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع، ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره، فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله؛ وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض.
واللطيفة الثالثة: ذكر الجبال ولم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر: {وفي الأرض قطع متجاورات} مع أن هذا الدليل مثل ذلك، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول: {أخرجنا به ثمرات} كان نفس إخراج الثمار دليلا على القدرة ثم زاد عليه بيانا، وقال مختلفا كذلك، في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة، لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار، ثم زاده بيانا وقال {جدد بيض}، أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دلائل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مختلفاً ألوانها} أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر. ولما ذكر تنوع ما عن الماء، وقدمه لأنه الأصل في التلوين كما أنه الأصل في التكوين، أتبعه التلوين عن التراب الذي هو أيضاً شيء واحد، فقال ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التأثر، وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه: {ومن} أي ومما خلقنا من {الجبال جدد} أي طرائق وعلامات وخطوط متقاطعة {بيض وحمر} ولعله عبر عنها بذلك دون طرق؛ إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق ولا تضمحل ألوانها على طول الأزمان كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده، والجد بالفتح، والجدة بالكسر، والجدد بالتحريك: وجه الأرض، وجمعه جدد كسرر.
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص: {مختلف ألوانها} وهي من الأرض وهي واحدة.
ولما قدم ما كان مستغرباً في ألوان الأرض لأنه على غير لونها الأصلي، أتبعه ما هو أقرب إلى الغبرة التي هي أصل لونها، ولما كانت مادة {غرب} تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس، ويلزم منه السواد، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره، قال تعالى عاطفاً على بيض: {وغرابيب} أي من الجدد أيضاً {سود} فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة "وسود غرابيب سود "فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: أشد سواد الغرابيب -رواه عنه البخاري، لأن السواد الخالص في الأرض، مستغرب، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره، فتصير في غاية السواد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب، لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها؛ في الثمرات وفي الجبال وفي الناس وفي الدواب والأنعام، لفتة تجمع في كلمات قلائل، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً، وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً.
وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها (فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها).. وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال. فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر، بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد. فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون! وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية؛ ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحياناً ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!
(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود).. والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد. واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزاً، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصراً مشتركاً بين هذه وتلك، يستحق النظر والالتفات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خِلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جِبلِّي فَطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي...
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن...
وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد. وفي الحديث:"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمْرة طعمُها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحُها طيّب وطعمها مُرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها"...
تلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يُذكِّرنا ببعض نِعَمه علينا، ثم يُتبع ذلك ببعض المطلوبات، وهكذا ليُؤنِس قلبك بالإحسان إليك لتستجيب لمطلوباته. والحق سبحانه حين يُذكِّر عباده بهذه الآية الكونية، آية إنزال الماء من السماء بعد أنْ بيَّن لنبيه أخْذه الشديد للكافرين، كأنه سبحانه يقول لرسوله: دَعْك من أمر هؤلاء الكافرين، فأنا قادر على معاقبتهم، وتأمل في هذه الآية الكونية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً..}.
وقوله {أَلَمْ تَرَ} أي: تشاهد؛ لأن الجميع يرى الماء، وهو ينزل من ناحية العلو، والسماء هي كل ما علاك فأظلَّك، وقد تأتي {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] بمعنى: ألم تعلم. وهذا في الأشياء التي لم يَرَها رسول الله كما في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]. ومعلوم أن سيدنا رسول الله لم يَرَ حادثة الفيل، لكن خاطبه ربه بـ {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] ليدل على أن إخبار الله له أوثقُ وأصدقُ من رؤية العين.
ومسألة إنزال الماء من السماء أي من ناحيتها، وإلا فالسماء شيء آخر، المطر إنما ينزل من السحاب القريب من الأرض. نقول: مسألة إنزال الماء من ناحية السماء يبدو أمراً طبيعياً، فبخار الماء ينعقد في السماء على هيئة سُحُب ممتلئة بالماء، والماء له ثِقَل ينزل إلى أسفل بجاذبية الأرض، لذلك يرتب الله على إنزال المطر إخراج النبات {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] فإنْ قُلْتُ: إن نزول الماء من السماء أمر طبيعي قد يُشك فيه أنه من فعل الطبيعة، فهل إحياء الأرض وإنبات النبات مختلف الثمرات والألوان أيضاً من فعل الطبيعة؟
وكلمة {أنزَلَ} تفيد العُلُو من المُنزِل والدُّنُو من المُنزَل إليه، حتى لو كان هذا الأمر معكوساً وأتى الإنزال من أسفل إلى أعلى كما في قوله تعالى:
{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] والحديد في الواقع نُخرجه من باطن الأرض، لكن سماه الله إنزالاً؛ لأن المراد به الإتيان من أعلى لأدنى بصرف النظر عن جهته أعلى أو أدنى.
ونحن نشاهد عملية إنزال الماء من السماء، لكن لم نشاهد عملية البخر التي تتم على سطح الماء في الأرض، ثم صعودها إلى طبقات الجو العليا حيث تتكوَّن السُّحب عن طريق التكثيف، والإنسان لم يكُنْ يعلم شيئاً عن هذه العمليات حتى تقدَّمتْ العلوم، وعرفنا عملية تقطير الماء.
أما عملية إخراج النبات والثمرات المختلفة الألوان فهي واضحة مُشَاهدة في البساتين والحقول، فكلنا يرى بدائع الألوان واختلاف الأشكال بحيث لا تتناهى حصراً؛ لأن ألوان الطيف إنْ كانت هي الألوان الأصلية فيمكن أن يتولَّد منها مَا لا حصر له، فاللون الأسود مثلاً لو أضفتَ إليه قطرة واحدة من اللون البني مثلاً يعطيك لوناً آخر، فإنْ أضفتَ قطرتين يعطيك لوناً ثالثاً، وهكذا لا تتناهى الألوان، وهذه المسألة نشاهدها الآن في صناعة الأقمشة، فقد تعددت ألوانها بدرجات مختلفة وزركشات لا حصر لها.
إذن: نقول: إن الألوان كائن لا يتناهى.
ولك أن تتأمل تداخل الألوان وتناسقها في زهرة أو وردة في الحديقة، وسوف ترى في ألوانها الإعجاز المبهر، فالحبة واحدة، والأرض واحدة، والماء واحد، لكن تولَّد من هذا كله هذا الشكل البديع وهذه الألوان المتداخلة المتناسقة؛ لأن الحدث آثار المحدِث، فإذا كان المحدِثُ محدودَ القدرة ظهرتْ آثاره كذلك محدودةَ القدرة، وإذا كان المحدِث فائقَ القدرة تأتي آثاره فائقة القدرة، أما الحق سبحانه فله طلاقة القدرة؛ لذلك تأتي آثاره كذلك.
وتلحظ في سياق الآية أن الحق سبحانه لم يتكلم عن إنزال المطر من السماء قال {أنزَلَ} بصيغة ضمير الغائب، لكن لما تكلّم عن إخراج الثمرات قال: {فَأَخْرَجْنَا} فنقلنا إلى ضمير الجماعة المتكلمة الدالّ على التعظيم؛ لماذا؟ لأن إنزال الماء من السماء ليس هدفاً في ذاته، فليس هو المهم، بدليل أن الماء قد ينزل على الأرض السّبخة فلا تستفيد به، أما عملية إخراج الثمار فهي العملية المهمة التي أنزل اللهُ الماءَ من أجلها؛ لذلك ذكرها بضمير الجمع الدالّ على التعظيم، فالحق سبحانه يُعظِّم نفسه في الفعل كما في قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]...
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حين يُحدِّثنا عن فعل من أفعاله يُحدِّثنا بضمير الجمع، أما إنْ تكلم عن ذاته سبحانه تكلّم بضمير المفرد، مثل:
{إِنَّنِيۤ أَنَا اللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ} [طه: 14].
وإنزال الماء في صورته أمر واحد، أما الإخراج ففيه تلوُّن للمخرج، فالماء المنزَّل من السماء واحد، لكن آثار الماء متعددة، فهذا أصفر، وهذا أبيض، وهذا أحمر.. الخ، فهذه العملية تحتاج إلى تعظيم يناسبها.
لكن، هل الإخراج للثمرات هكذا مباشرة؟ أم الإخراج للنبات الذي يعطي الثمرات؟ الإخراج للنبات الذي يعطي الثمر، فالحق سبحانه يذكر لنا الشيء بنهاية المطلوب منه وهو الثمر، وهذا الثمر يأتي مختلفاً في ألوانه، مع أن البيئة واحدة ويُسقى بماء واحد، وحين تتأمل الألوان في الثمار تجد فيها طلاقة القدرة لله تعالى، وهذه الألوان لم تُجعل هكذا لمجرد الشكل والزينة، إنما جُعِلَتْ هكذا لحكمة أرادها الخالق سبحانَه، منها أن هذه الألوان تجذب الحَشرات المخصِّبة.
ولو تأملتَ هذه الألوان لوجدتها متعددة حتى في اللون الواحد، ألاَ ترى أن بياض الثلج مثلاً غير بياض الثوب، غير بياض الجير؛ لذلك يصفون الألوان فيقولون أبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قانٍ، وأخضر مُدْهَام.
وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن آية من آياته في النبات يُحدِّثنا عن الجماد {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] ففي الجمادات أيضاً ألوان نشاهدها مثلاً حين نشقُّ الصخر لاستخراج ما في باطن الأرض، ترى مثلاً الجرانيت والرخام والعقيق بألوان مختلفة كذلك.
وكلمة {جُدَدٌ} [فاطر: 27] جمع جُدة، وهي الخط الفاصل بين شيئين، رأيتم طبعاً الحمار الوحشي المخطط ومدى تناسق هذه الخطوط، ترى مثل هذا في طبقات الجبال، وهي مختلفة البياض ومختلفة الاحمرار.
ومعنى {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] تقول: أسود غِرْبيب يعني: شديد السواد. فالغربيب أشدُّ درجات السواد نسبةً إلى الغراب لشدة سواده.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّاً من جهة، ومن جهة أخرى، يكون سبباً لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات والانحدارات، وأخيراً فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.