ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق :
فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية . والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة ؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم . إنما هو معهم . مرتبط بنواياهم وأعمالهم ، متوقف على كسبهم وعملهم . وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً . فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه ، ومن خلال اتجاهه ، ومن خلال عمله . وهو يحمل طائره معه . هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح . أو التشاؤم بالوجوه ، أما التشاؤم بالأمكنة أو التشاؤم بالكلمات . . فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم !
يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم ! أفهذا جزاء التذكير ?
تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير ؛ وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد ؛ وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب !
وقولهم عليهم السلام ، { طائركم معكم } ، معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم ، أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم ، وبهذا فسر الناس ، وسمي الحظ والنصيب طائراً استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر ، وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية : فطار لنا ، حين اقتسم المهاجرون ، عثمان بن مظعون{[9780]} ، ويقول الفقهاء : طار لفلان في المحاصة كذا وكذا ، وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد «طيركم معكم » ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر «أإن ذكرتم » بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون ، وقرأ نافع وأبوعمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء «أين ذكرتم » ، وقرأ الماجشون{[9781]} «أن ذكرتم » بفتح الألف{[9782]} ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن ذكرتم » بكسر الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش «أأن ذكرتم » بهمزتين مفتوحتين وشاهده قول الشاعر : [ الطويل ]
أأن كنت داود أحوى مرجلاً . . . فلست براع لابن عمك محرما{[9783]}
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش «أينْ ذكَرتم » بسكون الياء وتخفيف الكاف .
قال القاضي أبو محمد : فهي «أين » المقولة في الظرف ، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة والحسن في تخفيف الكاف فقط{[9784]} ، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا} فقالت الرسل: {طائركم معكم} الذي أصابكم كان مكتوبا في أعناقكم.
{أئن ذكرتم} أئن وعظتم بالله عز وجل تطيرتم بنا.
{بل أنتم قوم مسرفون} قوم مشركون والشرك أسرف الذنوب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الرسل لأصحاب القرية:"طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أئِنْ ذُكّرْتُمْ" يقولون: أعمالكم وأرزاقكم وحظّكم من الخير والشرّ مَعكم، ذلك كله في أعناقكم، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم، وسبق لكم من الله... وقوله: "أئِنْ ذُكّرْتُمْ "اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار "أئِنْ ذُكّرْتُمْ" بكسر الألف من «إنْ» وفتح ألف الاستفهام: بمعنى إن ذكرناكم فمعكم طائركم، ثم أدخل على «إن» التي هي حرف جزاء ألفَ استفهام في قول بعض نحويّي البصرة، وفي قول بعض الكوفيين منويّ به التكرير، كأنه قيل: قالوا طائركم معكم إن ذُكّرتم فمعكم طائركم، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه...
والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وهي دخول ألف الاستفهام على حرف الجزاء، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك، لإجماع الحجة من القرّاء عليه...
وقوله: "بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ" يقول: قالوا لهم: ما بكم التطَيّر بنا، ولكنكم قومٌ أهل معاص لله وآثام، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا طائرُكم معكم}: شؤمكم معكم حيث كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه من العناد والتكذيب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"طائركم معكم"... أي سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم، أو أسباب شؤمكم معكم، وهي كفرهم ومعاصيهم...
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان: ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
المسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد، وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء، أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام، وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل، فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه، وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان، فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه؟
نقول يحتمل أن يقال قوله: {أئن ذكرتم} وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم: {إن أنتم إلا تكذبون} فكأنهم قالوا: أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان، لا بل أنتم قوم مسرفون.
ويحتمل أن يقال أنحن مشؤومون، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه، لا بل أنتم قوم مسرفون.
ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام، وإن بينا صحة ما أتينا به، لا بل أنتم قوم مسرفون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق:
فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهم وأعمالهم، متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً. فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه، ومن خلال اتجاهه، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح. أو التشاؤم بالوجوه، أما التشاؤم بالأمكنة أو التشاؤم بالكلمات.. فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم!
تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير؛ وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد؛ وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
حكي قول الرسل بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي تعريضاً بأهل الشرك من قريش الذين ضربت القرية مثلاً لهم، فالرسل لم يذكروا مادة الطيرة والطير، وإنما أتوا بما يدل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم، لا جاءٍ من المرسلين إليهم فحكي بما يوافقه في كلام العرب تعريضاً بمشركي مكة، وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة ما هو من شؤون المشبَّهين بأصحاب القصة.
وقرأ الجمهور {أإن ذكرتم} بهمزة استفهام داخلة على {إنْ} المكسورة الهمزة الشرطية وتشديد الكاف. وقرأه أبو جعفر {أأن ذكرتم} بفتح كلتا الهمزتين وبتخفيف الكاف من {ذكرتم}. والاستفهام تقرير، أي ألأجْللِ إن ذكرنا أسماءَكم حين دعوناكم حلّ الشؤم بينكم كناية عن كونهم أهلاً لأن تكون أسماؤهم شؤماً.
وفي ذكر كلمة {قوم} إيذان بأن الإِسراف متمكن منهم وبه قِوام قوميتهم كما تقدم في قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
معنى {طَائِرُكُم} يعني: تشاؤمكم {مَّعَكُمْ} أي: ملازم لكم، والمراد هنا الكفر، والهمزة الأولى في {أَئِن} للاستفهام و (إنْ) أداة شرط وجوابها محذوف تقديره: أئن ذُكِّرتم بالله وبمنهج خالقكم، وبما يُسعدكم في دنياكم تكون النتيجة أنكم تهددون المذكِّر لكم بالرجم وبالعذاب الأليم، بدل أنْ تتبركوا به وتُعينوه وتتبعوا ما جاءكم به.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} يعني: متجاوزون للحدِّ؛ لأن الأمر بيننا وبينكم لم يخرج عن كونه مناظرة كلامية لم نتعدَّ فيها حدود البلاغ بأننا مُرْسَلون إليكم، فكانت النتيجة أنْ قابلتم المناظرة الكلامية بهذا الفعل القاسي المسرف المتجاوز للحدِّ، حيث جمعتم علينا الرجْم والعذاب الأليم.
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ...}.