ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج ، لديهم وسائله ، وعندهم عدته :
( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) . .
وقد كان فيهم عبداللّه بن أبي بن أبي سلول ، وكان فيهم الجد بن قيس ، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء .
( ولكن كره اللّه انبعاثهم ) . .
لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم ، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء .
( وقيل : اقعدوا مع القاعدين ) . .
وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو ، ولا ينبعثون للجهاد . فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين .
وقوله تعالى { ولو أرادوا الخروج } الآية ، حجة على المنافقين ، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه ، و «العدة » ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء{[5674]} ، وقرأ جمهور الناس «عُدة » بضم العين وتاء تأنيث ، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد «عُدة » بضم العين وهاء إضمار يريد «عدته » فحذفت تاء التأنيث لما أضاف ، كما قال «وأقام الصلاة » يريد إقامة الصلاة ، هذا قول الفراء ، وضعفه أبو الفتح ، وقال : إنما حذف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضاً منها ، وقال أبو حاتم : هو جمع ( عدة ) على ( عد ) ، كبرة وبر ، ودرة ودر ، والوجه فيه ُعدد ولكن لا يوافق خط المصحف ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش «عِده » بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل{[5675]} لأن العدو سمي قتلاً إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته ، { انبعاثهم } نفوذهم لهذه الغزوة ، و «التثبيط » التكسيل وكسر العزم ، وقوله { وقيل } ، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه { اقعدوا مع القاعدين } ، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظاً وإماً معنى ، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى الله عليه وسلم لهم في القعود ، أي : لما كره الله خروجهم يسر أن قلت لهم :{ اقعدوا مع القاعدين } ، والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي{[5676]}
وليس للهيئة في هذا كله مدخل ، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك يا محمد في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك الخروج معك. "لأعَدّوا لَهُ عُدّةً "يقول: لأعدّوا للخروج عدّة، ولتأهبوا للسفر والعدوّ أهبتهما. "وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ" يعني: خروجهم لذلك. "فَثَبّطَهُمْ" يقول: فثقل عليهم الخروج حتى استخفوا القعود في منازلهم خلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا لذلك الخروج. "وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ" يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضرّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه...عن ابن إسحاق، قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده.
... {وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} العدة: ما يُعِدُّه الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل، وهو نظير الأهْبة؛ وهذا يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه، وهو كقوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60].
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ}، يعني خروجهم؛ لأن خروجهم كان يقع على وجه الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو والتضريب بينهم، والخروجُ على هذا الوجه معصية وكفر، فكرهه الله تعالى وثبَّطهم عنه إذْ كان معصية والله لا يحب الفساد...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
العُدَّة والأهبة والآلة نظائر. والانبعاث: الانطلاق بسرعة في الأمر، ولذلك يقال: فلان لا ينبعث في الحاجة، أي ليس له نفاذ فيها. والتثبط: التوقف عن الأمر بالتزهيد فيه ومثله التعقيل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي لو صدقوا في الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سَقِمَتْ إرادتُهم، فحصلت دون الخروج بَلادَتُهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إليَّ زيد، ولكن أساء إليّ {فَثَبَّطَهُمْ} فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث {وَقِيلَ اقعدوا} جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل: هو قول الشيطان بالوسوسة. وقيل: هو قولهم لأنفسهم. وقيل: هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 45. 46] فلما تركوا الإيمان به بلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعة الله، ولم يستعدوا له، ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه، فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا، فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو أرادوا الخروج لأعدوا له} أي قبل حلوله {عدة} أي قوة وأهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها {ولكن} لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة، فلما أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم، إنما مانعهم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن {كره الله} أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد {انبعاثهم} أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له {فثبطهم} أي حبسهم عنه حبساً عظيماً بما شغلهم بما حبب إليهم من الشهوات وكره إليهم من ارتكاب المشقات بسبب أنهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون غير السيف عقاباً، قصروا هممهم الدنية على الصفات البهيمية، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها: إلى أين تخرجون؟ {وقيل} أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها {اقعدوا} أي عن جندي لا تصحبوهم، وفي قوله -: {مع القاعدين} أي الذين شأنهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء -من التبكيت ما لا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما أنهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن أنفسهم قابلة للدنايا غير صالحة للمزايا بوجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} من الزاد والراحلة وغير ذلك مما يعد لمثل هذا السفر البعيد، وكانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا، كما دلت عليه الآية.
{ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} الانبعاث: مطاوع البعث، وهو إثارة الإنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشيء بقوة ونشاط كبعث الرسل، أو إزعاج كبعثت البعير فانبعث، وبعث الله الموتى. والتثبيط: التعويق عن الأمر والمنع منه بالتكسيل أو التخذيل، ولم ترد في التنزيل إلا في هذه الآية. والمعنى: كره الله نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما سيذكر من ضرره العائق عما أحبه وقدره من نصره، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر والمخاوف التي هي مقتضى سنته في تأثير النفاق، فلم يعدوا للخروج عدته لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من العصيان.
{وقيل اقعدوا مع القاعدين} في هذا القيل وجوه:
أحدها: أنه تمثيل لداعية القعود التي هي أثر التثبيط، وفي معناه أنه أمر قدري تكويني لا خطاب كلامي.
والثاني: أنه قول الشيطان بالوسوسة.
والرابع: أنه حكاية لإذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وأنه قاله بعبارة تدل على السخط لا على الرضاء، إذ معناه اقعدوا مع الأطفال والزمنى والعجزة والنساء، فأخذوه على ظاهره لموافقته لمرادهم.
... ومذهبنا في أمثالها أنها بيان لسنة الله تعالى في ترتيب الأعمال الاختيارية، على ما يبعث عليها من العقائد والصفات النفسية، وموافقة ذلك هنا لحكمته وعنايته تعالى بأمر المؤمنين، وذلك توفيق أقدار لأقدار، في ضمن دائرة الاختيار، فلا جبر ولا اضطرار للعبد، ولا وجوب على الرب، فالحكمة والرحمة وما في شرعه من موافقة المصالح ودرء المفاسد مما يجب له، ولا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه وكتبه على نفسه كالرحمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج، لديهم وسائله، وعندهم عدته: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة).. وقد كان فيهم عبداللّه بن أبي بن أبي سلول، وكان فيهم الجد بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء. (ولكن كره اللّه انبعاثهم).. لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيئ. (فثبطهم).. ولم يبعث فيهم الهمة للخروج. (وقيل: اقعدوا مع القاعدين).. وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو، ولا ينبعثون للجهاد. فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين. وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين..
ففي ترددهم دلالة على أنهم لا يريدون الخروج للجهاد؛ ولو كانوا عازمين بالفعل على ذلك لأعدوا ما يلزمهم للحرب من الزاد والراحة والسلاح، ولكنهم لم يفعلوا من هذا قط؛ لأنهم افتقدوا النية الصادقة للجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ولقائل أن يقول: ألم يكن من الجائز أن يعدوا كل شيء للقتال في آخر لحظة؟ نقول: لا، فالذاهب إلى القتال لا يمكن أن يستعد في آخر لحظة. بل لا بد أن يشغل نفسه بمقدمات الحرب من سلاح وزاد وراحلة وغير ذلك، ولو لم يشغل نفسه بهذه المسائل قبل الخروج بفترة وتأكد من صلاحية سلاحه للقتال؛ ووجود الطعام الذي سيحمله معه؛ وغير ذلك، لما استطاع أن يخرج مقاتلا. فليست المسألة بنت اللحظة، بل كان عدم استعدادهم للقتال يعدّ كشفا للخميرة المبيّتة في أعماقهم بألا يخرجه، وسبحانه قد اطلع على نواياهم، وما تخفى صدورهم، وقد جازاهم بما أخفوا في أنفسهم. لذلك يقول: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} وسبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد من خلقه، الخلق هم الذين في اجتياح دائم إليه سبحانه؛ لذلك ثبط هؤلاء عن الخروج، وكره سبحانه خروجهم للقتال، و "ثبطهم "أي جعلهم في مكانهم، ولم يقبل منهم أن يعدوا العدة للقتال كراهية منه سبحانه أن يخرجوا بنشاط إلى القتال. والكره: عملية وجدانية. والتثبيط: عملية نزوعية. وأضرب هذا المثل دائما-ولله المثل الأعلى- أنت ترى الوردة، فتدر ك بعينك جمالها، فإن مددت إليها لتقطفها، هنا يتدخل الشرع ليقول لك، لا؛ لأن هذا نزوع إلى ما لا تملك. وإن أردت أن تحوز وردة مثلها، فإما أن تشتريها وإما أن تزرع مثلها، إذن: فالمشروع يتدخل-فقط- في الأعمال النزوعية. وكراهية الله لنزوعهم تجلت في تثبيطهم وخذلهم وردّهم عن الفعل، وزين لهم في نفسوهم ألا يخرجوا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لحكمة أرادها الحق سبحانه، فوافقت ما أذن فيه رسول الله في التخلف، وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وقيل اقعدوا مع القاعدين} وإذا كان التثبيط من الله، فكأنه أوضح لهم: اقعدوا بإذن الله من الإرادة الإلهية. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم بالقعود والتخلف لمّا استشفّ تراخيهم، أو أن الشياطين أوحت لهم بالقعود، فالحق هو القائل سبحانه: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} (الأنعام: 112). وهكذا نجد أن كلمة: {قيل} قد بنيت لما لم يسمّ فاعله لإمكان أن يتعدد القائلون، فالله بتثبيطه لهم كأنه قال لهم: اقعدوا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: اقعدوا، والشياطين حينما زينوا لهم القعود؛ كأنهم قالوا لهم: اقعدوا. وقولهم لبعض زيّن لهم القعود، وهكذا أعطتنا كلمة واحدة عطاءات متعددة. وهل ينفي عطاء عطاء؟. لا، بل كلها عطاءات تتناسب مع الموقف. {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا معه القاعدين} والمقصود بالقاعدين هنا: هم الذين لا يجب عليهم الجهاد من النساء والأطفال والعجائز، فكأنهم قد تخلوا بعدم خروجهم عن رجولتهم التي تفرض عليهم الجهاد. وهذه مسألة ما كان يصح أن يرتضوها لأنفسهم. وفي موقع آخر من نفس السورة قال الحق سبحانه: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم} (التوبة: 87) وقد كانت الرجولة تفترض فيهم أن يهبوا للقتال، ولكنهم ارتضوا لأنفسهم ضعف النساء والأطفال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويمضي القرآن في تصوير خصائصهم النفاقيّة، في أسلوب واضح يكشف حقيقة الزيف الذي يحاولون تغطيته بالمظاهر الخادعة: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} في بداية الأمر، قبل أن يأخذوا الإذن والرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم، تماماً كأي شخص يعيش قضيّة الطاعة في الجهاد الشامل الذي لم يستثنِ فيه الله أحداً، إلاّ من كان له عذرٌ ضاغطٌ في نطاق الظروف الصعبة المحيطة بالشخص جسديّاً وعقليّاً. ولكنهم لم يبدوا أيّ استعداد يوحي بالجديّة في الموقف والصدق في العزيمة، انطلاقاً من الحالة النفسية المعقّدة التي تتحكم فيهم فتمنعهم من التحرك في الاتجاه السليم، {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} لأنه اطلّع على مكامن العقدة في نفوسهم {فَثَبَّطَهُمْ} وأخرهم عن الخروج {وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} العاجزين، أو المتكاسلين الذين لا يعيشون مسؤولية القضايا الكبيرة، في ما يفرضه الإيمان على الإنسان في الحياة. وقد أوضحنا أكثر من مرة أنّ نسبة تأخير الأشياء إلى الله في أعمال السوء التي يقوم بها الإنسان، لا تمثِّل حالةً جبريّة قسريّة في حركة الإرادة لدى الإنسان، بل تمثل الحالة التي يملك فيها الإنسان موقع السبب المباشر في المسألة، التي ترتبط بأدوات العمل وقانون السببيّة الذي تربط بين الأشياء ومقدماتها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآية الأُولى من الآيات أعلاه بيان لعلامة أُخرى من علائم كذبهم، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفاً، إِذ جاء فيها (والله يعلم أنّهم لكاذبون) فالآية محل البحث تقول: (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة)، ولم ينتظروا الإذن لهم، (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين). وهناك كلام بين المفسّرين في المراد ب «قيل اقعدوا» فمن هو القائل؟! أهو الله سبحانه، أم النّبي، أم باطنهم؟! الظاهر أنّه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة، وكثيراً ما يُرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو النهي. ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكلّ عمل ونيّة اقتضاءً يُبتلى به الإِنسان شاء أم أبى، وليس لكلّ أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمّل الأعباء الكبرى، بل هو توفيق من قِبَل الله يوليه من يجد فيه طهارة النيّة والاستعداد والإِخلاص...