اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَلَوۡ أَرَادُواْ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ} (46)

قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } .

قرأ العامة " عُدَّة " بضمِّ العين وتاء التأنيث ، وهي الزَّادُ والراحلةُ ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ .

وقرأ محمد بنُ عبد الملك{[17839]} بن مروان ، وابنه معاوية " عُدَّهُ " كذلك ، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب ، يعود على " الخُرُوجِ " . واختلف في تخريجها ، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ ، كالتَّنوين ، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى : { وَإِقَامَ الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] .

ومنه قول زهير : [ البسيط ]

إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا *** وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا{[17840]}

يريد : عدة الأمْرِ .

وقال صاحبُ اللَّوامح " لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء ، فأسقطها ، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء ، ولا تقديرها ، هو " البئرُ الذي يخرج في الوجه " . وقال أبو حاتم : " هو جمع " عُدَّة " ، ك : " بُرّ " جمع " بُرّة " ، و " دُرّ " جمع " دُرَّة " والوجهُ فيه " عُدَد " ولكن لا يوافق خطَّ المصحف " . وقرأ زر{[17841]} بن حبيش ، وعاصم في رواية أبان " عِدَّهُ " بكسر العين ، مضافة إلى هاء الكناية .

قال ابن عطيَّة : هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ ، ك " الذَّبْح " ، و " القِتْل " .

وقرئ أيضاً{[17842]} " عِدَّة " بكسر العين ، وتاء التأنيث ، والمرادُ : عدة من الزَّاد والسلاح ، مشتقاً من " العَدَدِ " .

قوله : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ، فلذلك قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك ؟ قلتُ : لمَّا كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ، ك : " ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ " . انتهى . يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد " لكن " موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين ، أو نقيضين ، أو خلافين ، على خلاف في هذا الأخير ، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور .

قال أبُو حيان{[17843]} " وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني : ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ ، ولكن أساء - ، لأنَّ المثال واقعٌ فيه " لكن " بين ضِدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها " لكن " بين متفقين من جهة المعنى " .

قال شهابُ الدِّين{[17844]} " مُرادُهم بالنقيضين : النفيُ والإثبات لفظاً ، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً " .

والانبعاثُ : الانطلاقُ ، يقال : بعثتُ البعير فانبعث ، وبعثته لكذا فانبعث ، أي : نفذ فيه والتَّثْبِيطُ : التَّعْويق ، يقالُ : ثَبَّطْتُ زيداً ، أي : عُقْتُه عمَّا يريده ، من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي : بطيئة السير ، والمراد بقوله : " اقْعُدُوا " : التَّخْلية ، وهو كنايةٌ عن تباطئهم ، وأنَّهم تشبهوا بالنساء ، والصبيان ، والزَّمْنَى ، وذوي الأعذار ، وليس المرادُ قعوداً ؛ كقوله : [ البسيط ]

دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا *** واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي{[17845]}

والمعنى : أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، فصرفهم عنه .

فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة ، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة ، فإن كان مفسدة ، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود ؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم ؟

والجوابُ : أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة ؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } .


[17839]:ينظر: الكشاف 2/375، المحرر الوجيز 3/40، البحر المحيط 5/49، الدر المصون 3/469.
[17840]:تقدم.
[17841]:ينظر: الكشاف 2/275، المحرر الوجيز 3/40، البحر المحيط 5/49، الدر المصون 3/469.
[17842]:ينظر: البحر المحيط 5/49، الدر المصون 3/469.
[17843]:ينظر: البحر المحيط 5/50.
[17844]:ينظر: الدر المصون3/469.
[17845]:البيت للحطيئة في ديوانه ص 54؛ والأزهية ص175؛ والأغاني 2/155؛ وخزانة الأدب 6/299؛ وشرح شواهد الشافية ص 120؛ وشرح شواهد المغني 2/916؛ وشرح المفصل 6/15؛ والشعر والشعراء ص334؛ ولسان العرب 10/108 (ذرق)، 12/12/364 (طعم)، 15/224 (كسا)؛ وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص418؛ وخزانة الأدب 5/115؛ وشرح الأشموني 3/744؛ وشرح شافية ابن الحاجب 2/88، والبحر المحيط 5/50؛ والدر المصون 3/469.