البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَلَوۡ أَرَادُواْ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ} (46)

{ ولو أرادوا الخروج لأعَدّوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } قال ابن عباس : عدّة من الزاد والماء والراحلة ، لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد .

وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف .

وقال قوم : كانوا قادرين على تحصيل العدّة والإهبة .

وروى الضحاك عن ابن عباس : العدّة النية الخالصة في الجهاد .

وحكى الطبري : كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح .

وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية : عُدَّ بضم العين من غير تاء ، والفراء يقول : تسقط التاء للإضافة ، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة .

وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب ، ولكن لا يقيس ذلك ، إنما نقف فيه مع مورد السماع .

قال صاحب اللوامح : لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها ، وذلك لأنّ العد بغير تاء ، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه .

وقال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر ، الوجه فيه عدد ، ولكن لا يوافق خط المصحف .

وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم : عده بكسر العين ، وهاء إضمار .

قال ابن عطية : وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد ، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل .

وقرىء أيضاً : عبة بكسر العين ، وبالتاء دون إضافة أي : عدة من الزاد والسلاح ، أو مما لهم مأخوذ من العدد .

ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد ، وجاء بعدها ولكن ، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه ، لا بين متفقين ، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف موقع حرف الاستدراك ؟ ( قلت ) : لما كان قوله : ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو .

قيل : ولكن كره الله انبعاثهم ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى .

وليست الآية نظير هذا المثال ، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين ، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى ، والانبعاث الانطلاق والنهوض .

قال ابن عباس : فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم .

وبنى وقيل للمفعول ، فاحتمل أن يكون القول : أذن الرسول لهم في القعود ، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى ، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه .

وقال الزمخشري : جعل القاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود .

وقيل : هو من قول الشيطان بالوسوسة .

قال : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح .

( قلت ) : خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة انتهى .

وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة ، وهذا القول هو ذمٌّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخلفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى :

{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي