الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَلَوۡ أَرَادُواْ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ} (46)

قوله تعالى : { لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } : العامَّةُ على " عُدّة " بضم العين وتاء التأنيث وهي الزَّادُ والراحلةُ وجميعُ ما يَحْتاج إليه المسافرُ .

وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنهُ معاوية " عُدَّةُ " كذلك إلا أنه جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب تعود على الخروج . واختُلِف في تخريجِها فقيل : أصلُها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإِضافةِ كالتنوين . وجعل الفراء من ذلك قولَه تعالى : { وَإِقَامَ الصَّلاَة }

[ النور : 37 ] ، ومنه قولُ زهير :

2488 إنَّ الخَلِيْطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا *** وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعدُوا

يريد : عِدَّة الأمرِ . وقال صاحب " اللوامح " : لمَّا أضافَ جعل الكناية نائبةً عن التاء فأسقطها ؛ وذلك لأنَّ العُدَّ بغير تاء ولا تقديرها هو الشيء الذي يخرج في الوجه " . وقال أبو حاتم : " هو جمع عُدَّة ك بُرّ جمع بُرّة ، ودُرّ جمع دُرَّة ، والوجهُ فيه عُدَد ، ولكن لا يوافق خطَّ المصحف .

وقرأ زر بن حبيش وعاصم في رواية أبان " عِدَّهُ " بكسر العين مضافةً إلى هاءِ الكناية . قال ابن عطية : " وهو عندي اسمٌ لِما يُعَدُّ كالذِّبْح والقِتلْ . وقُرىء أيضاً " عِدَّة " بكسر العين وتاء التأنيث ، والمرادُ عدة من الزاد والسلاح مشتقاً من العَدَد .

قوله : { وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ } الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمل ؛ ولذلك قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك ؟ قلت : لمَّا كان قولُه { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ } معطياً نفيَ خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : ولكنْ كره الله [ انبعاثَهم ] ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تَثَبَّطوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ، كما [ تقول : ما ] أحسن زيدٌ إليَّ ولكن أساء إليّ " انتهى . يعني أن ظاهر الآية يقتضي أنَّ ما بعد " لكن " موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنها لا تقع إلا بين ضدين أو نقيضين أو خلافين على/ خلاف في هذا الأخير فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور .

قال الشيخ : " وليست الآيةُ نظيرَ هذا المثال يعني : ما أحسن زيداً إليّ ولكن أساء ، لأن المثالَ واقعٌ فيه " لكن " بين [ ضدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها " لكن " بين ] متفقين من جهة المعنى " ، قلت : مُرَادُهم بالنقيضين النفيُ والإِثبات لفظاً وإن كانا يتلاقيان في المعنى ، ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً .

والتَّثْبيطُ : التَّعْويق . يقال : ثَبَّطْتُ زيداً أي : عُقْتُه عَمَّا يريده من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي بطيئة السير . والمراد بقوله " اقعدوا " التَّخْلية وهو كنايةٌ عن تباطُئِهم ، وأنهم تشبهوا بالنساء أو الصبيان والزَّمْنى وذوي الأعذار ، وليس المراد قعوداً كقوله :

2489 دَعِ المكارِم لا تَقْصِدْ لبُغْيَتها *** واقعُدْ فإنَّك أنت الطاعِمُ الكاسي