في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر . وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني .

ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون ، فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام ، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد .

ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية - بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها ؛ وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود ! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون . وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم ، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين . وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد . . كله قد تقطع ، فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية . . فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم .

لنا أن نتصور هذا كله . أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير ، مشهد وفاتهم ، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم : على أي دين كانوا ، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال . ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب :

( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا : ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم : لنتخذن عليهم مسجدا ) .

إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس . يقرب إلى الناس قضية البعث . فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . . وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم .

وقال بعض الناس : ( ابنوا عليهم بنيانا )لا يحدد عقيدتهم ( ربهم أعلم بهم )وبما كانوا عليه من عقيدة . وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان : ( لنتخذن عليهم مسجدا )والمقصود معبد ، على طريقة اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والقديسين . وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين لهدى الرسول [ ص ] " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

الإشارة بذلك في قوله { وكذلك } إلى { بعثناهم ليتساءلوا } [ الكهف : 19 ] أي كما بعثناهم { أعثرنا عليهم } ، و «أعثر » تعدية بالهمزة ، وأصل العثار في القدم ، فلما كان العاثر في الشيء منتبهاً له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه ، والضمير في قوله { ليعلموا } يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وذلك أنهم ، فيما روي ، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه ، وقالوا إنما تحشر الأرواح ، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى الله في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فلما بعثهم الله ، وتبين الناس أمرهم ، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } على هذا التأويل ، ويحتمل أن يعمل في { أن } على هذا التأويل ، { أعثرنا } ، ويحتمل أن يعمل فيه { ليعلموا } ، والضمير في قوله { ليعلموا } يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف ، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور ، وقوله { إذ يتنازعون } على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والعامل في { إذ } ، فعل مضمر تقديره واذكر ، ويحتمل أن يعمل فيه { فقالوا } { إذ يتنازعون } { ابنوا عليهم } . والتنازع على هذا التأويل ، إنما هو في أمر البناء أو المسجد ، لا في أمر القيامة ، و «الريب » : الشك ، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها ، وإن كان الشك قد وقع لناس ، فذلك لا يلحقها منه شيء ، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات ، وبعض هم أحياء ، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم ، وتركهم فيه مغيبين ، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر : لنتخذن عليهم مسجداً ، فاتخذوه ، وقال قتادة { الذين غلبوا } هم الولاة ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : «غُلِبوا » بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولاً تريد أن لا يبنى عليهم شيء ، وأن لا يعرض لموضعهم ، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولا بد طمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان لا بد ، قالت يكون مسجداً ، فكان ، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان ، إنما كانت كافرة ، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم ، فمانعهم المؤمنون ، وقالوا { لنتخذن عليهم مسجداً } ، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم ، وحجبهم عنهم ، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم .