في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

261

وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله ؛ وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء . فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة ، وفشو هذا المعنى وظهوره خير . . ومن ثم تقول الآية :

( إن تبدوا الصدقات فنعما هي . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) . . فتشمل هاتين الحالتين وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف ؛ وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها ؛ وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات :

( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) . .

وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب ، والطمأنينة والراحة من جانب آخر ، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال :

( والله بما تعملون خبير ) . .

ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده ؛ لندرك أمرين :

الأول : بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال ، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح ، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس . والثاني : ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم . . ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام ! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله ، متجردين من هذا كله ، متجهين لله وحده دون الناس . وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة ، والجهد الكثير ، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص ! . . وقد كان . .

/خ274

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )

وقوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات } الآية ، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع ، قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، يقال بسبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرا يقال بخمسة وعشرين ضعفاً ، قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها( {[2653]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة( {[2654]} ) ، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك ، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع ، وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، وكان( {[2655]} ) يأمر بقسم الزكاة في السر ، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح ، فقد قال الطبري : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل ، قال المهدوي : وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به ، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع ، قال أبو محمد : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء ، وقال النقاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية }( {[2656]} ) [ البقرة : 274 ] ، وقوله : { فنعما هي } ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء ، واختلف القراء في قوله { فنعما هي }( {[2657]} ) ، فقرأ نافع في غير رواية ورش ، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل » فنِعمّا «بكسر النون وسكون » فنِعِمّا «بكسر النون والعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي » فَنعِمّا «بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم ، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين ، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد ، إذ المد يصير عوضاً من الحركة ، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه ، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها( {[2658]} ) كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكاناً للطف ، ذلك في السمع وخفائه ، وأما من قرأ " نِعِمّا " بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة " نِعم " بكسر الفاء من أجل حرف الحلق ، ولا يجوز أن يكون ممن يقول " نعم " ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم ، لا يدغم ، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد( {[2659]} ) ، قال سيبويه : نِعِما بكسر النون والعين ليس على لغة من قال " نعم " فاسكن العين ، ولكن على لغة من قال " نعم " فحرك العين ، وحدثنا أبو الخطاب( {[2660]} ) أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال " نعْما " ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين ، قال أبو علي وأما من قرأ «نَعِمّا » بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر :

ما أقلّت قدماي أنهم . . . نَعِمَ الساعون في الأمر المبر( {[2661]} )

ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعْم » بسكون العين ، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين ، قال أبو علي ، وما من قوله { نعمّا } في موضع نصب ، وقوله { هي } تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير ، نعم شيئاً إبداؤها . والإبداء هو المخصوص بالمدح . إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويدلك على هذا قوله { فهو خير لكم } أي الإخفاء خير ، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات ، فكذلك أولاً الفاعل هو الإبداء ، وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه ، واختلف القراء في قوله تعالى : { ونكفر عنكم } فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر : «ونكفرُ » بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «ونكفرْ » بالنون والجزم في الراء ، وروي مثل ذلك أيضاً عن عاصم ، وقرأ ابن عامر : «ويكفرُ » بالياء ورفع الراء ، وقرأ ابن عباس { وتكفر } بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء ، وقرأ عكرمة : { وتكفر } بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء ، وقرأ الحسن : «ويكفرْ » بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أنه قرأ : { ويكفر } بالياء ونصب الراء ، وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش : «يكفر » بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء ، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ : «وتكفرُ » بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء( {[2662]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة ، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر ، والإعطاء في خفاء هو المكفر ، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين : أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء ، وتقدير ونحن نكفر ، أو وهي تكفر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفر ، والثاني : القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة ، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى : { فهو خير } إذ هو في موضع جزم جواباً للشرط ، كأنه قال : وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم ، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ :

{ من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم }( {[2663]} ) [ الأعراف : 186 ] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة ، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن » وتأمل( {[2664]} ) ، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام . والجزم في الراء أفصح هذه القراءات . لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء . وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى( {[2665]} ) ، و { من } في قوله : { من سيئاتكم } للتبعيض المحض( {[2666]} ) ، والمعنى في ذلك متمكن ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { من } زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ ، وقوله : { والله بما تعملون خبير } وعد ووعيد .


[2653]:- رواه الإمام الطبري، ومثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف، والآية عامة في الفرائض والنوافل، فالإخفاء أفضل فيهما معا، قال ابن عطية رحمه الله: «ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض فقد كثر المانع. وصار إخراجها عرضة للرياء»، وما قاله رحمه الله حق وواقع إلا أن الإمام الطبري رحمه الله روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ما روى، وحكى الإجماع على أن إظهار الواجب أفضل، وعلى الإنسان أن ينظر إلى الظروف المحيطة به، فإن كان إظهار صدقة الفرض يشجع على إخراجها فالأمر واضح، وإلا فيعمل على إخفائها، فالإخفاء حيث تصان الكرامة وتتحرج النفس من الإعلان، والإبداء حيث تطلب الأسوة وتنفذ الشريعة، ولكل مقامه في الحياة.
[2654]:- رواه الشيخان، والترمذي بلفظ، (عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). ورواه أبو داود في سننه بلفظك (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلى المكتوبة). والحديث رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالنافلة في البيت أفضل منها في المسجد ولو كان فاضلا كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
[2655]:- أي يزيد بن أبي حبيب.
[2656]:- من الآية (274) من سورة البقرة.
[2657]:- مثله قوله تعالى: [إن الله نِعِمَّا يعظكم به]، والقراءات الثلاث التي ذكرها ابن عطية كلها تشدد الميم، واللغات في هذه المادة أربع: نعم بفتح فكسر، ولك أن تطرح الكسرة فتقول: نَعْم بفتح فسكون، ونِعِم بكسرتين، ولك أن تطرح الكسرة الثانية فتقول: نِعْم بكسر فسكون، وهذه أفصح اللغات، وإن كان أصلها نَعِم بفتح فكسر، وقد قالوا: إن كل ما كان على فَعِل بفتح فكسر وثانيه حرف حلقي ففيه هذه اللغات الأربع.
[2658]:- أي كسر العين كسرا خفيفا مختلساً، وهذا الجواب من أبي علي الفارسي، ثم إن ما أنكروه قد جاء عن أكثر القراء في عدة مواضع، والحق أن القراءات منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومتواترة، فلا ينبغي أن يتطرق الشك إليها، ومتى تطرق إلى ذلك تطرق إلى غيره. الأمر كله راجع إلى التقاء الساكنين وعدمهن فحيث يلتقي الساكنان لا يجوز الادغام مثل: «قوم ملِك – وجسم ماجد». لأن الواو في (قوم) ساكنة، والسين في (جسم) ساكنة، أما في قولهم: "قدم ملك" فيجوز الإدغام لأن الدال متحركة.
[2659]:- يعني أن قراءة: (فَنِعِما هي) بكسرتين لها تقديران: أحدهما أنها جاءت على لغة من يقول: (نعِم) وهي لغة هذيل. وثانيهما أن تكون جاءت على أن الأصل (نِعْم) بكسر فسكون ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين، وهذا التقدير الثاني هو الذي قال فيه أبو الخطاب: إن كسر النون لعب. تأمل.
[2660]:- هو العلاء بن عبد الوهاب الأندلسي، كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمة العالية في طلب العلم، رحل إلى المشرق، وحدث ببغداد ودمشق، وتوفي ببلده المرية سنة 454هـ. انظر : "نفح الطيب".
[2661]:- البيت لطرفة بن العبد وهو من قصيدة طويلة: من جملتها: نحن في المَشْتَاةِ نَدْعو الجَفَلَـى لا نرى الآدِبَ فِيناَ يَنْتِقِـرْ وفي رواية: "قدمي" بالإفراد. والأمر المُبرُّ: الذي يطلب به البِرُّ والتقرب إلى الله. والجفلى: الجماعة من الناس. يقال: دعاهم جميعا إلى الطعام من غير تخصيص. الآدب: هو الذي يقيم مأدبة طعام – وينتقر: يختار فريقا ويخصهم بالدعوة.
[2662]:- ذكر عشر قراءات باعتبار قراءتي الأعمش.
[2663]:- من الآية (186) من سورة الأعراف.
[2664]:- قال الزمخشري في "الكشاف": «وقرأ الحسن رضي الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن، ومعناه إن يخفوها يكن خيرا لكم وأن يكفر عنهم» ا هـ. الكشاف 1-397 وقال أبو (ح): «ومن نصب الراء فبإضمار (أن)، وهو عطف على مصدر متوهم، ونظيره قراءة من قرأ: [يحاسبكم به الله فيغفر] بنصب الراء، إلا أنه هنا يعسر تقدير المصدر المتوهم من قوله [فهو خير لكم] فيحتاج إلى تكلف، بخلاف قوله: [يحاسبكم] فإنه يُقدَّر: تقع محاسبة فغفران». – ثم نقل كلام الزمخشري، وعقب عليه بما يفيد أن تقدير كلامه: «يكن خيرا لكم وتكفيرا» فيكون في موضع نصب، والذي تقرر عند البصريين، بأن مثل هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع تقديره من المعنى، وضرب لذلك أمثلة فارجع إليه إن شئت. البحر المحيط 2-325و326.
[2665]:- قد يقال: إن الرفع أبلغ وأعم، لأن التكفير المتعلق بما قبله مترتب معنى على بذل الصدقات أُبديت أو أخُفيت، وإن كان الإخفاء خيرا، وأما على الجزم فإنه يكون خاصا بإخفاء الصدقة، ولا يمكن أن يقال: إن الذي يبدي صدقاته لا يكفر من سيئاته، على أن الرفع هو اختيار الخليل وسيبويه.
[2666]:- ويكون ذلك دالا على أن المراد بالسيئات الصغائر. والله أعلم.