في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ} (20)

تبدأ الجولة الثالثة بنسق جديد . تبدأ بعرض الدليل الكوني مرتبطا بالناس ، متلبسا بمصالحهم وحياتهم ومعاشهم ، متعلقا بنعم الله عليهم ، نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة ، تلك التي يستمتعون بها ، ولا يستحيون معها أن يجادلوا في الله المنعم المتفضل الوهاب . . ثم تسير على هذا النسق في تقرير القضية الأولى التي عالجتها الجولتان الأولى والثانية . .

ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ؛ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ? ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ? . .

وهذه اللفتة المكررة في القرآن بشتى الأساليب تبدو جديدة في كل مرة ، لأن هذا الكون لا يزال يتجدد في الحس كلما نظر إليه القلب ، وتدبر أسراره ، وتأمل عجائبه التي لا تنفد ؛ ولا يبلغ الإنسان في عمره المحدود أن يتقصاها ؛ وهي تبدو في كل نظرة بلون جديد ، وإيقاع جديد .

والسياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون ! مما يقطع بأن هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ؛ وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبرة ، التي تنسق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل . . الأرض . . !

إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون . والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض ، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية ، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئا إلى جوارها . ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه ، وتكريمه له على كثير من خلقه . . هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب . وأن يهيء الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه ، ومن ذخائره وخيراته . وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية ، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة ، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض . فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل ؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل ؛ وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل ؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل ؛ وكل نفس يتنفسه ، وكل خفقة يخفقها قلبه ، وكل منظر تلتقطه عينه ، وكل صوت تلتقطه أذنه ، وكل خاطر يهجس في ضميره ، وكل فكرة يتدبرها عقله . . . إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله .

وقد سخر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات ، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم ، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه . وسخر له ما في الأرض . وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبرا . فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض ، ومكنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز . ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر . ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره ؛ ومنه ما لم يعرفه أصلا من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري . وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها ، ولا يحصي أنماطها . . ومع هذا كله فإن فريقا من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم ، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم .

( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) . .

وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني ، وفي جوار هذه النعمة السابغة ويبدو الجحود والإنكار بشعا شنيعا قبيحا ، تنفر منه الفطرة ، ويقشعر منه الضمير . ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله ، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة . يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله ؛ جاحدا النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة . ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم ، ولا يهتدي بهدى ، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ} (20)

هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك ، وقرأ يحيى بن عمارة وابن عباس «وأصبغ » بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صاداً ، والجمهور قراءتهم بالسين ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم «نعمَه » جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال ، و «الظاهرة » هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك ، و «الباطنة » المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل .

قال ابن عباس «الظاهر » الإسلام وحسن الخلقة ، و «الباطنة » ما يستر من سيىء العمل ، وفي الحديث قيل يا رسول الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة ؟ قال : ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك{[9377]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : ومن «الباطنة » التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة ، ومن «الظاهرة » عمل الجوارح بالطاعة . قال المحاسبي رحمه الله «الظاهرة » تعم الدنيا و «الباطنة » تعم العقبى ، وقرأ جمهور الناس «نعمة » على الإفراد ، فقال مجاهد المراد لا إله إلا الله ، وقال ابن عباس أراد الإسلام ، والظاهر عندي أنه اسم جنس كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }{[9378]} [ إبراهيم : 34 ، النحل : 18 ] ، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : { ومن الناس } ، وقال النقاش : الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية ، فذلك جدالهم ، و { بغير علم } أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتاباً بأمر الله يقر بأنه وحي ، بل ذلك دعوى منهم وتخرص ، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة فسلكوا طريق الآباء .


[9377]:أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} قال: هذه من كنوز علي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما باطنة فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم. وأخرج ابن مردويه، والبيهقي، وابن النجار مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وزادوا في آخره: (يا ابن عباس، إن الله تعالى يقول: ثلاث جعلتهن للمؤمن: صلاة المؤمنين عليه من بعده، وجعلت له ثلث ماله أكفر عنه من خطاياه، وسترت عليه من مساوئ عمله فلم أفضحه بشيء منها، ولو أبديتها لنبذه أهله فمن سواهم). وأخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[9378]:من الآية 18 من سورة النحل.