في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

105

( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيما . واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله . وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ؟ أم من يكون عليهم وكيلا ؟ ) .

إننا نحس في التعبير صرامة ، يفوح منها الغضب للحق ، والغيرة على العدل ؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها :

وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله [ ص ] بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه ، وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم ، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة ، وقوله تعالى : { بما أراك الله } معناه : على قوانين الشرع ، إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي ، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ، وقوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً ، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق ، وكانوا إخوة ، بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وينحل الشعر غيره ، فكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث ، فقال شعراً يتنصل فيه ، فمنه قوله :

أفكلما قال الرجال قصيدة . . . نحلت وقالوا : ابن الأبيرق قالها

قال قتادة بن النعمان : وكان بنو أبيرق أهل فاقة ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من درمك الشام{[4267]} فجعله في مشربة له{[4268]} ، وفي المشربة درعا له وسيفان ، فعدي على المشربة من الليل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا ، فقال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم ، قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : «ونحن نسأل » والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه{[4269]} ثم أتى بني ابيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها{[4270]} فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي : يابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه ، فقال : انظر في ذلك ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلاً منهم يقال له : أسير بن عروة{[4271]} فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته قال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة ، قال : فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه ، فأتيت عمي فقال : ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن { إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } الآيات .

فالخائنون بنو أبيرق ، والبريء المرمي لبيد بن سهل ، والطائفة التي همت : أسير وأصحابه .

وقال قتادة وغير واحد من المتأولين : هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة ، وقال السدي : القصة في طعمة بن أبيرق ولكن بأن استودعه يهودي درعاً فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليك الأنصاري{[4272]} ، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح ، وأبو مليل هو البريء المشار إليه ، وقال عكرمة : سرق طعمة بن أبيرق درعاً من مشربة ورمى بسرقتها رجلاً من اليهود يقال له : زيد بن السمين .

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه ، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق ، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم ، وخلق{[4273]} مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك ، ونبه على مقالة قتادة بن النعمان بقوله : { ولا تكن للخائنين خصيماً } .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة ، ونزل على سلافة{[4274]} فرماها حسان بن ثابت بشعر ، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت : اخرج عنا ، أهديت إليَّ شعر حسان ، فروي : أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله ، وروي : أنه اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه .


[4267]:- الدّرمك: الدقيق الناعم. وهو هنا يقصد نوعا معينا يأتي من الشام.
[4268]:- المشربة: المكان يشرب منه، وهو بفتح الراء وضمها، والجمع: مشارب.
[4269]:- اخترط سيفه: استلّه من غمده.
[4270]:- أي: بصاحب الحادثة، أو السرقة.
[4271]:- قال القرطبي في تفسيره: ابن عم لهم. يعني لبني أبيرق. وكان أسير هذا مسلما، ومن ذلك الوقت اتهم بالنفاق، قال ابن إسحاق: وفيه نزلت: [لهمّت طائفة منهم أن يضلوك]. (عن الاستيعاب 1/ 100).
[4272]:- قال في الإصابة (12/28): أبو مليك هو: سليك بن الأغر، مذكور في الصحابة، كذا ذكره ابن عبد البر مختصرا، وأنا أخشى أن يكون هو الذي بعده وقع فيه تصحيف وتحريف" والذي بعده هو: أبو مُليل –بلامين- الأنصاري، ذكره ابن إسحاق وغيره فيمن شهد بدرا، وقال ابن فتحون: إنهما واحد.اهـ- والثابت في الأصول: أبو مليك وفي بعضها: أبو مليكة. وكذلك هو في "البحر المحيط".
[4273]:- هكذا في الأصول: والصواب أن تكون: (وخلقا)، لأنها معطوفة على: (معصية) خبر (كان)، اللهم إلا إذا قدرناها خبرا لمبتدأ محذوف، أي: وهي خلق، ومعناها: اختلاق وافتراء، أو لعلها من سهو النساخ، والله أعلم.
[4274]:- اسمها: سلافة (بضم السين) بنت سعد بن شهيد، ومن شعر حسان فيها قوله: وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم وفينا نبي عنده الحي واضعه.