في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

16

وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .

أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .

ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .

كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .

والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .

ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :

( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .

والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون* ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } على دينه ، { رأفةً } وهي أشد الرقة ، { ورحمةً } كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { رحماء بينهم }( الفتح- 29 ) ، { ورهبانية ابتدعوها } من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم ، { ما كتبناها } ، أي ما فرضناها ، { عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فما رعوها حق رعايتها } أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ، ودخلوا في دين ملوكهم ، وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حرب ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية . { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ، { فما رعوها حق رعايتها } يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، { وكثير منهم فاسقون } هم الذين جاؤوا من بعدهم .

قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره ، وآمنوا به فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم ، { يؤتكم كفلين } نصيبين ، { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله :{ ورحمة } ثم ابتدأ : { ورهبانية ابتدعوها } ، وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها ، يعني : الطاعة والملة { حق رعايتها } كناية عن غير مذكور ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى اتقوا الله . { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { ويجعل لكم نوراً تمشون به } قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم }( التحريم- 8 ) ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عز وجل : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين }( القصص- 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وزادهم النور والمغفرة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ثم قفينا " أي اتبعنا " على آثارهم " أي على آثار الذرية . وقيل : على أثار نوح وإبراهيم " برسلنا " موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم " وقفينا بعيسى ابن مريم " فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه " وآتيناه الإنجيل " وهو الكتاب المنزل عليه . وتقدم اشتقاقه في أول سورة " آل عمران{[14732]} " .

الثانية- قوله تعالى : " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " على دينه يعني الحواريين وأتباعهم " رأفة ورحمة " أي مودة فكان يوادُّ بعضهم بعضا . وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه . والرأفة اللين ، والرحمة الشفقة . وقيل : الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل . وقيل : الرأفة أشد الرحمة . وتم الكلام . ثم قال : " ورهبانية ابتدعوها " أي من قبل أنفسهم . والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها . وقال الزجاج : أي ابتدعوها رهبانية ، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت . وقيل : إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها . قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب . الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا . قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع . وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع . وفي خبر مرفوع : ( هي لُحُوقُهم بالبراري والجبال ) .

قوله تعالى : " ما كتبناها عليهم " أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ، قاله ابن زيد . " إلا ابتغاء رضوان الله " أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ، قاله ابن مسلم . وقال الزجاج : " ما كتبناها عليهم " معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة . ويكون " ابتغاء رضوان الله " بدلا من الهاء والألف في " كتبناها " والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وقيل : " إلا ابتغاء " الاستثناء منقطع ، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . " فما رعوها حق رعايتها " أي فما قاموا بها حق القيام . وهذا خصوص ؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم ، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله{[14733]} " [ التوبة : 34 ] وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر . وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها " قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى ، فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة . فقال المؤمنون : نحن نكفيكم أنفسنا . فطائفة قالت : ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها ، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا . وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا . وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ، فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " الآية . يقول : ابتدعها هؤلاء الصالحون " فما رعوها " المتأخرون " حق رعايتها " " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها " وكثير منهم فاسقون " يعني المتأخرين ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

الثالثة- وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية . وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " .

الرابعة- وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان . وقد مضى بيان هذا في سورة " الكهف{[14734]} " مستوفى والحمد لله . وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا . قال : لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله ! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة ) . وروى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدري أي الناس أعلم ) قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ؟ ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا " ورهبانية " الآية - أتدري ما رهبانية أمتي ؟ الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم : " ورهبانية ابتدعوها " - الآية - فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ) يعني الذي تهودوا وتنصروا . وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون . وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر . والله أعلم .


[14732]:راجع جـ 4 ص 5.
[14733]:راجع جـ 8 ص 122.
[14734]:راجع جـ 10 ص 360.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله : { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } يعني ، ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم من بعدهما ، كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم من المرسلين { وقفينا بعيسى ابن مريم } أي أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه مريم { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله هداية لبني إسرائيل .

قوله : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } جعل الله في قلوب الذين آمنوا به واتبعوا ما جاءهم به وهم الحواريون ، رأفة وهي أشد الرحمة ، أو الرفق واللين . والرحمة ، الشفقة { ورهبانية ابتدعوها } رهبانية ، منصوب بفعل مقدر . وتقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها{[4468]} أي أحدثوها من قبل أنفسهم { ما كتبناها عليهم } أي ما افترضنا عليهم تلك الرهبانية { إلا ابتغاء رضوان الله } أي لكنهم أحدثوها من عند أنفسهم طلبا لمرضاة الله فالاستثناء منقطع . والرهبانية والترهب بمعنى التعبد . ومن مظاهرها الاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحو ذلك من وجوه التقشف وحرمان النفس{[4469]} .

قوله : { فما رعوها حق رعايتها } أي ما قاموا بها حق القيام . أو لم يرعوا الرهبانية التي ابتدعوها حق الرعاية . ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى فتنصروا وتهودوا ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا وتركوا الترهب .

قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي أعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ورعوها ، ثوابهم لصدق إيمانهم وابتغائهم رضوان الله . قوله : { وكثير منهم فاسقون } كثير منهم خارجون عن دين الله الحق وعن طاعته سبحانه{[4470]} .


[4468]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 425.
[4469]:القاموس المحيط جـ 1 ص 79 ومختار الصحاح ص 59.
[4470]:تفسير الطبري جـ 27 ص 140 وفتح القدير جـ 5 ص 178.