في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين ، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه . ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم - متى أخلصوا فيها - حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم . وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما . وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .

ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة . في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم . . . ) وهو بجملته يصح نقله هنا ! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضا آخر . . يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها :

إن التوبة التي يقبلها الله ، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس ، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى . قد هزها الندم من الأعماق ، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت ، وهي في فسحة من العمر ، وبحبوحة من الأمل ، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد . .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما ) . .

والذين يعلمون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب . . وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم . . والذين يتوبون من قريب : هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ، ويدخلوا في سكراته ، ويحسوا أنهم على عتباته . فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم ، والانخلاع من الخطيئة ، والنية على العمل الصالح والتكفير . وهي إذن نشأة جديدة للنفس ، ويقظة جديدة للضمير . . ( فأولئك يتوب الله عليهم ) . . ( وكان الله عليما حكيما ) . . يتصرف عن علم وعن حكمة . ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار ، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم .

إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف ، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا . وهو - سبحانه - غني عنهم ، وما تنفعه توبتهم ، ولكن تنفعهم هم أنفسهم ، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه . ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إنما التوبة على الله } أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته . { للذين يعملون السوء بجهالة } متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفها وتجاهل ، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته . { ثم يتوبون من قريب } من زمان قريب ، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر " وسماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } . أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع ، و{ من } للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت ، أو يزين السوء . { فأولئك يتوب الله عليهم } وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه بقوله { إنما التوبة على الله } { وكان الله عليما } فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة { حكيما } والحكيم لا يعاقب التائب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

استطراد جرّ إليه قوله : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران ( 90 ) : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } و { إنَّما } للحصر .

و { على } هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك : عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد . والمعنى : التوبة تحقّ على الله ، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله ، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله . قال ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا .

وقد تسلّط الحصر على الخبر ، وهو { للذين يعملون } ، وذكر له قيدان وهما { بجهالة } و { من قريب } . والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة ، وهي ما قابل الحِلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم . قال عمرو بن كلثوم :

أَلا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا *** فَنَجْهل فوْقَ جهل الجاهلينا

وقال تعالى ، حكاية عن يوسف « وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين » . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك . وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة ، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثماً ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه .

وقوله : { من قريب } ، من فيه للابتداء و { قريب } صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء .

وتأوّل بعضهم معنى { من قريب } بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يبيّن المراد من معنى ( قريب ) .

واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين « بجهالة من قريب » حتّى قيل : إنّ حكم الآية منسوخ بآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، والأكثر على أنّ قيد ( بجهالة ) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان . فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرَه . والذي يظهر أنّهما قيدان ذكراً للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جارياً على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ،