في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ؛ وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم ، وعرض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .

ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع :

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ، وقالوا : هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ؛ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ؛ ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات ، أولئك مبرأون مما يقولون ، لهم مغفرة ورزق كريم ) . .

هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ؛ وعلق قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ، وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .

فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم ، وتكشف عن سر هذه الآيات :

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :

كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج ، وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أني فيه ؛ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام ؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه ؛ وكنت جارية حديثة السن ؛ فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي ، بعدما استمر الجيش ، فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ؛ فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ؛ والله ما يكلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ؛ وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطى ء على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا معرسين .

قالت : فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فقدمنا المدينة ، فاشتكيت بها شهرا ؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت ، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ! فقلت لها : بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت : وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : كيف تيكم ? فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت : سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك . قالت : فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بريرة فقال لها : أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من يومه ، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت : فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت - لعمر الله - لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان – الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المنبر ، فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .

وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم جلس ، ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد حين جلس ، ثم قال : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت : إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ، واستقر في نفوسكم ، وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه ، ولا خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسري عنه ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله ( والله غفور رحيم )فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال : " يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت : فطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

وهكذا عاش رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ، وفي ظل تلك الآلام الهائلة ، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .

وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .

فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ، ونظافة تصوراتها ، ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام ، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

ها هي ذي ترمى ، وهي بريئة غارة غافلة ، لا تحتاط لشيء ، ولا تتوقع شيئا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله ، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا ، تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث ، لحكمة يريدها الله ، شهرا كاملا ؛ وهي في مثل هذا العذاب .

ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ؛ وهي تقول لأمها في أسى : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل : وقد علم به أبي ? فتجيب أمها : نعم ! فتقول : ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? - فتجيبها أمها كذلك : نعم !

ويا لله لها ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ، يقول لها : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها ، لا يستيقن من طهارتها ، ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد ، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها ، وأحلها في سويدائه !

وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم ، وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل ، لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه ، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم ، فيقول : والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال في مرارة هامدة : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها : يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول كما قال زوجها من قبل : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه ، وفي أمانته ، وفي شرفه ، وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي ، وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ، فيقول : سبحان الله ! والله ما كشفت كتف أنثى قط . ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه ، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به . ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم ، وهو منهى عنه ، أن الألم قد تجاوز طاقته ، فلم يملك زمام نفسه الجريح !

ثم ها هو ذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو رسول الله ، وهو في الذروة من بني هاشم . . ها هو ذا يرمى في بيته . وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجه والحبيبة . وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه ، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة . وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته ، وهو القائم على الحرمات في أمته . وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ، وهو الرسول المعصوم من كل سوء .

ها هو ذا [ صلى الله عليه وسلم ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه ، وقلبه ورسالته . يرمى في كل ما يعتز به عربي ، وكل ما يعتز به نبي . . ها هو ذا يرمى في هذا كله ؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا ، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا . والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا . ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم . يعاني من العار ، ويعاني فجيعة القلب ؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة . الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق . . والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله ، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة ، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ؛ فلا يملك أن يطرد الشك . لأنه في النهاية بشر ، ينفعل في هذا انفعالات البشر . وزوج لا يطيق أن يمس فراشه . ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم .

وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده ، فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه . . ويبعث إلى علي ابن أبي طالب . ابن عمه وسنده . يستشيرهما في خاصة أمره . فأما علي فهو من عصب محمد ، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب . ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ، ابن عمه وكافله . فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه . ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويستقر على قرار . وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الود لأهله ، والتعب لخاطر الفراق ، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين ، وكذب المفترين الأفاكين .

ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في لهفة الإنسان ، وفي قلق الإنسان ، يستمد من حديث أسامة ، ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ، فيستعذر ممن نالوا عرضه ، ورموا أهله ، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء . . فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة ، وقد خدشت قداسة القيادة ، ويحز هذا في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح !

وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقةالطاهرة ؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك ، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم .

ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل : " وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى . ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها " . .

ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها . فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ووظيفته في الجماعة يومها . بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها . وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها ، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . . من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ، ويرد المكيدة المدبرة ، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ؛ وما يعلمها إلا الله :

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .

فهم ليسوا فردا ولا أفرادا ؛ إنما هم( عصبة ) متجمعة ذات هدف واحد . ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك . إنما هو الذي تولى معظمه . وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين ، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية . وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة . ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ؛ وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة . أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ، وعلى رأسها ابن سلول ، الحذر الماكر ، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به ، فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم ، ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا ، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها !

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ، وعمق جذوره ، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم .

ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد :

( لا تحسبوه شرا لكم ؛ بل هو خير لكم ) . .

خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ، وتتطاول إلى أعلى الهامات ، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء .

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم .

أما الآلام التي عاناها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته ، والجماعة المسلمة كلها ، فهي ثمنالتجربة ، وضريبة الابتلاء ، الواجبة الأداء !

أما الذين خاضوا في الإفك ، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة : ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) . . ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله . وبئس ما اكتسبوه ، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم )يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم .

والذي تولى كبره ، وقاد حملته ، واضطلع منه بالنصيب الأوفى ، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول . رأس النفاق ، وحامل لواء الكيد . ولقد عرف كيف يختار مقتلا ، لولا أن الله كان من ورائه محيطا ، وكان لدينه حافظا ، ولرسوله عاصما ، وللجماعة المسلمة راعيا . . ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال : من هذه ? فقالوا : عائشة رضي الله عنها . . فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها . وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ؛ ثم جاء يقودها !

وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية . بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق ، والتي تكذبها القرائن كلها . وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين . وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا . وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى .

وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك . وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة ، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق .

لقد كانت معركة خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك . وخاضها الإسلام . معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار ، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره . فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله . والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته . والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه .

ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه ؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه . والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور ، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ إن الذين جاءوا بالإفك } بأبلغ ما يكون من الكذب من الإفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها . وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به . { عصبة منكم } جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد اله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : { لا تحسبوه شرا لكم } مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي اله تعالى عنهم والهاء للإفك . { بل هو خير لكم } لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا . { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به . { والذي تولى كبره } معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه . { منهم } من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به { والذي } بمعنى الذين . { له عذاب عظيم } في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر «الإفك » وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها . و «الإفك » : الزور والكذب ، والأفاك : الكذاب ، و «الإفك » : قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة الصواب وبذلك شبه الكذب . واختصار ، حديث «الإفك » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع{[8620]} قال ابن إسحاق كانت سنة ست ، وقال ابن عقبة كانت سنة أَربع{[8621]} فضاع لها هناك عقد ، فلما انصرفت إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه ، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد أحداً وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أَن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإِنا إليه راجعون ، وذلك أنه تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل اتفاقاً فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها ، فاسترجع وقال ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفت هاهنا ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل «الإفك » في مقالتهم وكل الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه{[8622]} عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنة بنت جحش ، وهذا اختصار الحديث هو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل{[8623]} وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما قال الناس فيه : سبحان الله والله ما كشفت كنف{[8624]} أنثى قط .

قال الفقيه الإمام القاضي : أراد بزنى{[8625]} ، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنيه «لهما أشبه به من الغراب بالغراب »{[8626]} وقيل كان حصوراً لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق عن طريق عائشة ، وقتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشر في زمن عمر ، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن معاوية ، وقوله { عصبة } رفع على البدل من الضمير في { جاؤوا } وخبر { إن } في قوله { لا تحسبوه } والتقدير إن فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أَن يكون { عصبة } خبر { إن } و «العصبة » الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة ولم يسم من أهل «الإفك » إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله{[8627]} وجهل الغير قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا { عصبة } كما قال الله تعالى .

وقوله { لا تحسبوه } خطاب لكل من ساءه من المؤمنين ، وقوله { بل هو خير لكم } يريد أنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أَن نزل وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن ، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة . ففي ذلك شفاء وخير هذه خمسة أوجه ، والضمير في قوله { منهم } عائد على العصبة المذكورة ، و { اكتسب } مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التذنيب ، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله :

فحملت برة واحتملت فجاره{[8628]} ، والإشارة بقوله { والذي تولى كبره } إلى عبد الله بن أبي سلول ، والعذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة ، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث ، وروي عن عائشة رضي الله عنها أَن حسان بن ثابت دخل عليها يوماً وقد عمي فأنشدها مدحه فيها : [ الطويل ]

حصان رزان ما تزنُّ بريبة . . . وتصبح غرثى من لحوم الغوافل{[8629]}

فقالت له عائشة : لا لكنك لست كذلك تريد أَنه وقع في الغوافل فأنشد : [ الطويل ]

فإن كان ما قد قيل عني قلته . . . فلا رفعت سوطي إليَّ أَناملي{[8630]}

فلما خرج قال لها مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك ، فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى ، وضرب الحد ؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع فأما قولها عن الحد فإن حسان بن ثابت وحمنة ومسطحاً حدوا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن أبي حد ، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما لأنه لم يحفظ عن عبد الله الرمي ، قال عروة في البخاري : ( أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه ){[8631]} . وأَما ضربة بالسيف فإن صفوان بن العطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال : [ الطويل ]

تلق ذباب السيف عني فإنني . . . غلام إذا هوجيت لست بشاعر

فأخذ جماعة صفوان ولببوه وجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر رسول الله صلى الله عليه جرح حسان واستوهبه إياه ، وهذا يقتضي أن حسان ممن تولى الكبر{[8632]} ، وقال الإشارة ب { الذي } إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها ف { لكل } واحد { منهم ما اكتسب } وللبادي المفتري عذاب عظيم ، وهو على غير معين وهذا قول الضحاك والحسن وقال أَبو زيد وغيره هو عبد الله بن أَبي ، وقرأ جمهور الناس «كِبره » بكسر الكاف ، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأَبو رجاء والأعمش وابن أَبي عبلة «كُبره » بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم ، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة «الكبر الكبر »{[8633]} ومن استعماله في المعنى الثاني قول ابن الحطيم : [ المنسرح ]

تنام عن كبر شأنها فإذا . . . قامت رويداً تكاد تنقصف{[8634]}

الخطاب بهاتين الآيتين لجميع المؤمنين حاشى من تولى الكبر ويحتمل دخولهم في الخطاب ، وفي هذا عتاب للمؤمنين أي كان الإنكار واجباً عليهم ، والمعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم وإذا كان ذلك يبعد فيهم فكانوا يقضون بأنه من صفوان وعائشة أبعد لفضلهما ، وروي أَن هذا النظر السديد وقع من أَبي أيوب الأنصاري وامرأته ، وذلك أنه دخل عليها فقالت له يا أًبا أيوب أسمعت ما قيل ؟ فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ؟ قالت لا والله ، قال فعائشة والله أفضل منك ، قالت أم أيوب نعم{[8620]} فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين [ عليه ]{[8621]} إذ لم يفعله جميعهم .


[8620]:هو ماء لبني المصطلق يقال له: المريسيع، وهو من ناحية قد يد إلى الساحل، وقد لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الماء فسميت الغزوة باسمه.
[8621]:وقيل: بل كانت سنة خمس، قال الحاكم في "الإكليل": وهذا أشبه من قول ابن إسحق، ويؤيد هذا ما ثبت في حديث الإفك من تنازع كل من سعد بن معاد الأنصاري وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، ولو كانت غزوة المريسيع سنة ست كما قال ابن إسحق لكان ذكر سعد بن معاذ في حديث الإفك خطأ؛ لأنه مات أيام قريظة سنة خمس على الصحيح. هذه حجة من قال إنها كانت سنة خمس، واعتمد على ذكر سعد بن معاذ في مسلم والبخاري، أما ابن إسحق الذي ذكر أنها كانت سنة ست فلا يذكر سعد بن معاذ، بل يذكر أسيد بن حضير على أنه هو الذي وقع بينه وبين سعد بن عبادة نزاع.
[8622]:يستوشيه: يستخرجه بالبحث والسؤال عنه ثم يفشيه ويشيعه وينشره في الناس.
[8623]:حديث الإفك مشهور، وهو حديث طويل، وقد رواه البخاري في غزوة بني المصطلق، ورواه مسلم في كتاب التوبة، وذكر الإمام السيوطي في الدر المنثور أن من رواته أحمد في مسنده، والترمذي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وهو عن عائشة رضي الله عنها. وقد نقل ابن كثير في تفسيره حديث الإفك عن الإمام أحمد وعن البخاري ومسلم، كذلك ذكر الحديث مطولا الإمام الحافظ بن حجر في كتاب "فتح الباري".
[8624]:الكنف: جانب الشيء، وكنفا الإنسان: حضناه عن يمينه وشماله. "المعجم الوسيط"، وقد ورد في بعض الكتب "كتف" بالتاء.
[8625]:جاء في حديث الإفك ما يأتي على لسان السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: (وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف أنثى قط) ـ وهذا يتفق مع ما قاله ابن إسحق من أن صفوان كان حصورا لا يأتي النساء، ولكن ذلك يتناقض مع ما رواه أبو داود من طريق أبي صالح عن أبي سعيد، قال: (جاءت امرأة صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان يضربني...) فكيف تكون له زوجة ويقول: ما كشفت كنف امرأة قط؟ يجيب ابن عطية عن هذا بقوله: "أراد بزنى" يعني: لم أكشف كنف امرأة في زنى، أما الحلال فلم ينفه، وقد أورد البخاري هذا الإشكال قديما، ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد عن قصة امرأته وضربه لها، وأجاب صاحب "الإصابة" بقوله: إنه تزوج بعد قصة الإفك، أما عند قصة الإفك فلم يكن قد كشف كنف امرأة قط، وهو صادق في يمينه.
[8626]:هذا جزء من حديث رواه البخاري في كتاب اللباس، وهو عن رفاعة الذي طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وشكت المرأة أن زوجها الجديد ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، وكذبها زوجها وقال إنها ناشز ويريد العودة إلى رفاعة، وكان معه ابنين له من غيرها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا الذي تزعمين ما تزعمين، فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب)، ولم نقف على مثل هذا النص في حديث عن صفوان إلا هذه الفقرة التي ذكرها المؤلف، ونقلها عنه القرطبي فيما نقل، وهي أيضا في كتاب الإصابة، والله أعلم بالصواب.
[8627]:وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حسان، ومسطحا، وحمنة بعد أن برأ القرآن الكريم عائشة رضي الله عنها، فقد أقام عليهم حد القذف، واختلف هل أقيم الحد على عبد الله بن أبي بن سلول أم لا، ومسطح لقب، واسمه عوف. وحمنة هي أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
[8628]:هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، والبيت بتمامه: إنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار وهو من قصيدة قالها النابغة في هجاء زرعة بن عمرو بن خويلد الكلابي، لأن زرعة كان قد طلب إلى النابغة أن يشير على قومه بقتال بني أسد، فأبى النابغة فتوعده زرعة، فقال النابغة قصيدته وفيها: نبئت زرعة والسفاهة كاسمها يهدي إلي غرائب الأشعار وقد استشهد صاحب اللسان بالنصف الثاني أيضا من البيت، وقال: "عبر عن البرة بالحمل، وعن الفجرة بالاحتمال؛ لأن حمل البرة بالإضافة إلى احتمال الفجرة أمر يسير ومستصغر، ومثله قول عز اسمه: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وبرة علم للبر، وفجار علم على الفجور، وهو مبني على الكسر، وقد قيل: إن (احتمل) بمعنى (حمل)، وأصله مطاوع (حمله) فاحتمل، ولكن تنوسي معنى المطاوعة بكثرة الاستعمال فصار بمعنى حمل، والنابغة لزرعة: لقد ذهب كل منها بحظه ونصيبه في الحياة، فذهبت أنا بالخير والبر، وذهبت أنت بالشر والفجور.
[8629]:سبق الاستشهاد بهذا البيت في هذه السورة عند تفسير قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات}. راجع صفحة (431).
[8630]:هذا بيت آخر من الأبيات التي قالها حسان بن ثابت في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في هذه الأبيات يعتذر عما كان منه، وقد رواها ابن إسحق وتجدها في السيرة النبوية لابن هشام، وهذه هي الأبيات كما رواها، وتختلف في عددها وترتيب الأبيات فيها عما في الديوان: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرئ بي ماحل
[8631]:أورد البخاري ذلك في حديث الإفك، وذكر بعده عن عروة أيضا قوله: (لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى). والكلام من أول قول ابن عطية: "ذكره الترمذي..." إلى آخر ما نقله عن عروة سقط من أكثر النسخ المخطوطة.
[8632]:قصة ضرب صفوان لحسان بالسيف ذكرها ابن إسحق في السيرة، وفيها أن ثابت ابن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل حين ضرب حسان، فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك، ضرب حسان بالسيف، والله ما أراه إلا قد قتله، قال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: أحسن يا حسان، أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام، أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله. قال ابن إسحق: فحدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحاء.
[8633]:أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في القسامة، والترمذي في الديات، والنسائي في القسامة، والدرامي في الفرائض، ولفظه كما في البخاري، عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل، وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن ـ وكان أصغر القوم ـ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبر، قال يحيى: ليلي الكلام الأكبر، فتكلموا في أمر صاحبكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتستحقون قتيلكم ـ أو قال صاحبكم ـ بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: يا رسول الله، أمر لم نره، قال: فتبرئكم يهود في أيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله.
[8634]:قال ابن الخطيم هذا البيت من الشعر في حرب كانت بين قومه وبين بني خطمة، وهو في الديوان، وخبر هذه الحرب في الأغاني وفي الخزانة، والبيت مع أبيات قبله في وصف امرأة نشأت في نعمة ورفاهية، فهي لا تعمل، وهي تنام عن معظم شأنها لأنها ليست في حاجة إلى العمل، إذ لها من الخدم من يغنيها عن ذلك، حتى إذا قامت قامت في سكون وضعف. وتنغرف: تسقط، يقال: انغرف الغصن من الشجرة إذا انقطع، ورويت: (تكاد تنعطف)، كما رويت: (تنقصف) أي: تنكسر لرقة خصرها وثقل ردفها. ورويدا معناه: برفق ودعة وتكاسل، وهو منصوب على الحال، أو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: قياما رويدا. والبيت شرحه ابن السكيت في كتابه (إصلاح المنطق)، والبطليوسي في (الاقتضاب)، وروي "تمشي رويدا"، وفي الحماسة البصرية: "قامت تمشي"، وهو في (المحتسب) لابن جني كما رواه ها هنا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى : { والله سميع عليم } [ النور : 21 ] نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه .

والإفك : اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس . وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء ، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت ، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً . وتقدم عند قوله تعالى : { فإذا هي تلقف ما يأفكون } في سورة الأعراف ( 117 ) .

و { جاءو بالإفك } معناه : قصدوا واهتموا . وأصله : أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له : جاء بخبر كذا ، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ } [ الحجرات : 6 ] ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح .

والإفك : حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين . وحاصل هذا الخبر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة . آذن بالرحيل آخر الليل . فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقداً من جَزْع ظَفَارِ كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل . فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها ، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطِّل ( بكسر الطاء ) السُّلمي ( بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطناً المدينة من مهاجرة العرب ) قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش ، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصُر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع ، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين في الجيش فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، فراج قوله على حسان بن ثابت ومِسْطح بن أثاثة ( بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة ) وحَمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي .

فالإفك : علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق .

والعصبة : الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة . وقيل العصبة : الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس . وقيل في مصحف حفصة « عصبة أربعة منكم » . وهم اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ويقال : عصابة . وقد تقدم في أول سورة يوسف ( 8 ) .

{ وعصبة } بدل من ضمير { جاءو } .

وجملة : { لا تحسبوه شراً لكم } خبر { إن } . والمعنى : لا تحسبوا إفكهم شراً لكم ، لأن الضمير المنصوب من { تحسبوه } لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقاً بفعل { جاءو } صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد . فالتقدير : لا تحسبوا الإفك المذكور شراً لكم . ويجوز أن يكون خبر { إن } قوله : { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } وتكون جملة { لا تحسبوه } معترضة .

ويجوز جعل { عصبة } خبر { إن } ويكون الكلام مستعملاً في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكراً ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

وذكر { عصبة } تحقير لهم ولقولهم ، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك . ووصف العصبة بكونهم { منكم } يدل على أنهم من المسلمين ، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين .

وقوله : { لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير { تحسبوه } عائد إلى الإفك .

والشر المحسوب : أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص ( فإنهم أهل المدينة الفاضلة ) . فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم .

ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين .

وقال أبو بكر ابن العربي : حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه . وأن خيراً لا شر فيه هو الجنة وشراً لا خير فيه هو جهنم . فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه .

وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى : { أينما يوجهه لا يأت بخير } في سورة النحل ( 76 ) .

وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شراً للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شراً ، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة ؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين ، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم ، وتتبين منه براءة فضلائهم ، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محقرين مذمومين ، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين ، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين ، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب . قال في « الكشاف » : . . . وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه .

وعدل عن أن يعطف { خيراً } على { شراً } بحرف ( بل ) فيقال : بل خيراً لكم ، إيثاراً للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام .

والإثم : الذنب وتقدم عند قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } في سورة البقرة ( 219 ) وعند قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في سورة الأنعام ( 120 ) .

وتولي الأمر : مباشرة عمله والتهمم به .

{ والكِبر } بكسر الكاف في قراءة الجمهور ، ويجوز ضم الكاف . وقرأ به يعقوب وحده ، ومعناه : أشد الشيء ومعظمه ، فهما لغتان عند جمهور أيمة اللغة . وقال ابن جني والزجاج : المكسور بمعنى الإثم ، والمضموم : معظم الشيء . { والذي تولى كبره } هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين .

وضمير { منهم } عائد إلى { الذين جاءو بالإفك } . وقيل : الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في « صحيح البخاري » : « عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتاً منها :

حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة : لكن أنت لست كذلك . قال مسروق فقلت : تَدَعِين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } فقالت : أي عذاب أشد من العمى » .

والوعيد بأن له عذاباً عظيماً يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول . وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار ، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم . وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين .