والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث . والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم . ولا خوف من الظلم في جزائهم . . بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب ؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح ! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا ؛ إنما هو رزق الله لهم . ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة ؛ ويزيدهم من فضله ، وهم من رزقه ينفقون ويعطون ! فياله من كرم ! وياله من فيض ! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران !
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة . ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء ، والمثقال مفعال من الثقل ، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه . { وإن تك حسنة } وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث . وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة . وقرأ بن كثير ونافع { حسنة } بالرفع على كان التامة . { يضاعفها } يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى . { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل { أجرا عظيما } عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيد عليه .
{ مثقال } مفعال من الثقل ، و «الذرة » : الصغيرة الحمراء من النمل ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول ، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى ، تقول العرب : أفعى جارية ، وهي أشدها ، وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
من الْقَاصِرات الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحِولٌ مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرا{[4036]}
فالمحول الذي أتى عليه حول . وقال حسان : [ الخفيف ]
لو يَدبُّ الحوليُّ من ولد الذ *** ر عليها لأنْدَبَتْها الكلومُ{[4037]}
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء » وهي عبارة فاسدة ، وروي عن ابن عباس : «الذرة » رأس النملة ، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة »{[4038]} و { مثقال } مفعول ثان ل { يظلم } ، والأول مضمر التقدير ، أن الله لا يظلم أحداً مثقال و { يظلم } لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين ، كأنه قال : إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب ، ويصح أن يكون نصب { مثقال } على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي ، فيجيء على هذا نعتاً لمصدر محذوف ، التقدير : إن الله لا يظلم ظلماً مثقال ذرة ، كما تقول : إن الأمير لا يظلم قليلاً ولا كثيراً ، أي لا يظلم ظلماً قليلاً ولا كثيراً ، فعلى هذا وقف { يظلم } على مفعول واحد ، وقال قتادة عن نفسه ، ورواه عن بعض العلماء ، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا جميعاً ، وحذفت النون من { تكن } لكثرة الاستعمال ، وشبهها خفة بحروف المد واللين ، وقرأ جمهور السبعة «حسنةً » بالرفع على نقصان «كان » واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة ، وقرأ نافع وابن كثير «حسنةٌ » بالرفع على تمام «كان » التقدير : وإن تقع حسنة أو توجد حسنة ، و { يضاعفها } جواب الشرط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها » مشددة العين بغير ألف ، قال ابو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن «يضْعفها » بسكون الضاد وتخفيف العين ، ومضاعفة الشيء في كلام العرب : زيادة مثله إليه ، فإذا قلت : ضعفت فقد أتيت ببنية التكثير ، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي{[4039]} مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد ، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير ، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد ، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه ، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز : أن «ضاعفت » يقتضي مراراً كثيرة ، وضعفت يقتضي مرتين ، وقال مثله الطبري ومنه نقل ، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرىء به في قوله { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } {[4040]} ، فإنه قرىء «يضاعفه ويضعفه » وما قرىء به في قوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين }{[4041]} [ الأحزاب : 30 ] فإنها قرىء «يضعف لها العذاب ضعفين » وقال بعض المتأولين : هذه الآية خص بها المهاجرون ، لأن الله أعلم في كتابه : أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار ، وأعلم في هذه : أنها مضاعفة مراراً كثيرة جداً حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة ، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة{[4042]} ، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران ، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين ، حسبما روى عبد الله بن عمر : أنها لما نزلت { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }{[4043]} في الناس كافة قال رجل : فما للمهاجرين ؟ فقال ما هو أعظم من هذا { إن الله لا يظلم }{[4044]} الآية فخصوا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة{[4045]} ، ولا يقع تضاد في الخبر ، وقال بعضهم : بل وعد بذلك جميع المؤمنين ، وروي في ذلك أحاديث ، وهي : أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فينادي هذا فلان بن فلان ، فمن كان له عنده حق فليقم قال : فيحب الإنسان لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه ، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف ، ولا يبقى له إلا وزن الذرة ، فيقول الله تعالى : أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة{[4046]} ، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره ، والآية تعم المؤمنين والكافرين فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم ، و { لدنه } معناه من عنده ، قال سيبويه : ولدن : هي لابتداء الغاية ، فهي تناسب أحد مواضع من ، ولذلك التأما ودخلت { من } عليها{[4047]} ، والأجر العظيم : الجنة ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد ، والله إذا منَّ بتفضله بلغ بعبده الغاية{[4048]} .
استئناف بعد أن وصف حالهم ، وأقام الحجّة عليهم ، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا ، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل ، بله الظلم الشديد ، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب ، وأنّه في حقّهم عدل ، لأنّهم استحقّوه بكفرهم ، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله : { وإن تك حسنة } ولمّا كان المنفي الظلم ، على أنّ ( مثقال ذرّة ) تقدير لأقلّ ظلم ، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته .
وانتصب { مثقال ذرة } بالنيابة عن المفعول المطلق ، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة ، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل ، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة ، والمراد به المقدار .
والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة ، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ ، وهذا أحقر ما يقدُر به ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى . وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حسنة } بالرفع على أنّ ( تك ) مضارع كان التامّة ، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ . وقرأه الجمهور بنصب { حسنة } على الخبرية ل { تَكُ } على اعتبار كان ناقصة ، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة ، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه .
والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل ، يقال : ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة ، مثل أبي علي الفارسي . وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْفٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين . وردّ بقوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة . وقرأ الجمهور : { يضاعفها } ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر : { يُضَعِّفها } بدون ألف بعد العين وبتشديد العين .
والأجر العظيم ما يزاد على الضعف ، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة ، فقال : { من لدنه } إضافة تشريف . وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح ، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة .