ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ . . صفحة مدين وأخيهم شعيب :
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس اشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ) . .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على اللّه توكلنا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ، فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ ) . .
إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة ، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع ، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات ، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق .
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره ) .
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل . . ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد :
( قد جاءتكم بينة من ربكم ) . .
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة - كما ذكرها في قصة صالح - ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى . ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها ، تثبت دعواه أنه مرسل من عند اللّه . ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان ، والنهي عن الإفساد في الأرض ، والكف عن قطع الطريق على الناس ، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه :
( فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ، وتصدون عن سبيل اللّه من آمن به ، وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) . .
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب ، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون اللّه وحده ، إنما يشركون معه عباده في سلطانه ؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع اللّه العادل ؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل - ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة - وأنهم - لذلك - كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء ؛ كما كانوا مفسدين في الأرض ، يقطعون الطريق على سواهم . ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم ، ويصدونهم عن سبيل اللّه المستقيم ؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل اللّه ؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة ، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج اللّه .
ويبدأ شعيب - عليه السلام - بدعوتهم إلى عبادة اللّه وحده وإفراده سبحانه بالألوهية ، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله .
يبدأ شعيب - عليه السلام - في دعوتهم من هذه القاعدة ؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها ؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل . ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة .
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة للّه وحده ، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم ، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها اللّه بالشريعة . .
يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية . . يذكرهم نعمة اللّه عليهم :
( واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ) .
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وصراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام ، وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها منعوه . وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا إنه كذاب فلا يفتننك عن دينك ويوعدون لمن آمن به . وقيل كانوا يقطعون الطريق . { وتصدون عن سبيل الله } يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لكل صراط ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله . { من آمن به } أي بالله ، أو بكل صراط على الأول ، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا . { وتبغونها عوجا } وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه ، أو وصفها للناس بأنها معوجة . { واذكروا إذ كنتم قليلا } عددكم أو عُددكم . { فكثّركم } بالبركة في النسل أو المال . { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم .
وقوله : { ولا تقعدوا بكل صراط } الآية ، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، والصراط : الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل : خسهم ونقصهم الكيل والوزن ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ، وهو نهي عن السلب وقطع الطريق ، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما ، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم .
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضاً ، قوله : { ولا تقعدوا } نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب ، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول ، وقوله تعالى : { وتصدون عن سبيل الله من آمن } الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و { سبيل الله } المفضية إلى رحمته ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب ، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل » وتقدم القول في مثل قوله : { وتبغونها عوجاً } في صدر السورة ، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام ، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد ، وقيل : أغناهم بعد فقر ، فالمعنى على هذا : إذ كنتم قليلاً قدركم ، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة .
قوله : { ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون } هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان ، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة ، وفي ذلك صلاح أنفسهم ، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يَرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفودَ النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه السّلام لئلا يؤمنوا به . فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السّلام .
والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لأقْعُدَنّ لهم صراطك المستقيم } في هذه السّورة ( 16 ) .
و ( كُلّ ) للعموم وهو عموم عُرفي ، أي كلّ صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب عليه السّلام ، ويجوز أن تكون كلمة ( كلّ ) مستعملة في الكثرة كما تقدّم .
والباء للإلصاق ، أو هي بمعنى ( في ) كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل . كقول امرىء القيس : بسِقْط اللِّوَى البيت .
وجملة : { توعدون } حال من ضمير { تقعدوا } والإيعاد : الوعد بالشرّ . والمقصود من الإيعاد الصدّ ، فيكون عطف جملة { وتصدون } عطفَ علّة على معلول ، أو أريد توعدون المصمّمين على اتِّباع الإيمان ، وتصدّون الذين لم يصمّموا فهو عطف عام على خاص .
و { من آمن } يتنازعه كلٌ من { توعدون } وتصدّون .
والتّعبير بالماضي في قوله : { مَن آمن به } عوضاً عن المضارع ، حيث المراد بمن آمن قاصدُ الإيمان ، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لولا أنّهم يصدّونه لكان قد آمن .
و { سبيل الله } الدّين لأنّه مِثل الطريق الموصل إلى الله ، أي إلى القرب من مرضاته .
ومعنى { تبغونها عوجا } تبغون لسبيل الله عوجاً إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل ، يقال : بغاه بمعنى طلب له ، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى .
والعِوَج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني ، وبفتح العين : عدم استقامة الذات ، والمعنى : تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال ، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم . وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار .
وإنما أَخَّر النهي عن الصد عن سبيل الله ، بعد جملة { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله : { ذلكم خير لكم } لأنه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد ، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين ، فاعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فاعاد تنبيههم إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال ، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه ، فهذا مثل الترتيب في قول امرىء القيس :
كأنّيَ لم اركَبْ جواداً للذّةٍ *** ولم أتبطّنْ كاعباً ذات خلْخالٍ
ولم أسْبَأ الراحَ الكُميتَ ولم أقل *** لخَيْلِي كُري كَرّةً بعد إجفال
روى الواحدي في « شرح ديوان المتنبي » أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه :
وقَفْتَ وما في الموْت شكّ لوَاقِفٍ *** كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
تَمُر بك الأبطال كَلْمَي حزينة *** ووجهك وضَّاح وثَغْرُك باســـم
أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عَجُزي البيتين على صدريهما ، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عَجُزاً اللأول والعكس وأنت في هذا مِثْل امرىء القيس في قوله : كأنّي لم أركب جواداً للذة البيتين ،
ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشّعر : أن يكون عجز البيت الأوّل للثّاني وعجز البيت الثّاني للأوّل ؛ ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكَر ، ويكون سباء الخمر مع تبطّن الكاعب ، فقال أبو الطّيّب : « إن صحّ أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا أعلَمُ منه بالشّعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأتُ أنا ، ومولانا الأميرُ يعلم أنّ الثّوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك ، لأنّ البزّاز لا يعرف إلاّ جملته ، والحائكَ يعرف جملتَه وتفصيله ، لأنّه أخرجه من الغَزْليَّة إلى الثَّوْبيَّة ، وإنَّما قَرن امرؤ القيس لذة النّساء بلذّة الرّكوب للصّيد وقرن السّماحة في شراء الخمر للأضياف بالشّجاعة في منازلة الأعداء ، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعتُه بذكر الردَى لتجانسه ، ولمّا كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً وعينُه من أن تكون باكية قلتُ : « ووجهك وضّاح وثَغرك باسم » لأجمع بين الأضداد في المعنى .
وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدّد ، وإنّ بعضاً يكون أرجح من بعض .
وذَكَّرَهُم شُعيبٌ عليه السّلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلاً ، وهي نعمة عليهم ، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشراً .
ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل ، وحفظهم من أسباب المَوتَان ، ويَسَّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثُرت مواليدهم وقلّت وفياتُهم ، فصاروا عدداً كثيراً في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم ، فيُعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعياً في تقليل حزب الله ، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثَّرهم ، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم ، إذْ استأصلهم بعد أن كانوا كثيراً فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها .
فلذلك أعقبه بقوله : { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } . وفي هذا الكلام جمع بين طريقي التّرغيب والتّرهيب .
وقليل وصْف يلزم الإفرادَ والتّذكير ، مثل كثير ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { وكأيِّن من نبيء قتل معه ربّيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) .
والمراد { بالمفسدين } الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشّرك وبأعمال الضّلال ، وأفسدوا المجتمع بخالفة الشّرائع ، وأفسدوا النّاس بإمدادهم بالضّلال وصدّهم عن الهدى ، ولذلك لم يؤت : ل { المفسدين } بمتعلِّق لأنّه اعتبر صفة ، وقطع عن مشابهة الفعل ، أي الذين عرفوا بالإفساد . وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء ، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله ، فإنّها تشملهم وبالاعتبار بمن مضَوا فإنّه ينفعهم ، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتّسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشّرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شُعيب عليه السّلام .
و ( إذ ) في قوله : { إذْ كنتم قليلاً } اسم زمان ، غيرُ ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمانَ كنتم قليلاً فأعقبه بأن كثّركم في مدّة قريبة .