ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت آبائكم ، أو بيوت أمهاتكم ، أو بيوت أخوانكم ، أو بيوت أخواتكم ، أو بيوت أعمامكم ، أو بيوت عماتكم ، أو بيوت أخوالكم ، أو بيوت خالاتكم ؛ أو ما ملكتم مفاتحه ، أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .
ولآن الآية آية تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول ( من بيوتكم )فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة ، فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات ، فبيوت الأخوال ، فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا )فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) . . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم ، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب ، أو من إجابة من يدعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم ، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } . وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده . { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " وقوله عليه الصلاة والسلام " إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه " { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا . وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرىء { مفتاحه } . { أو صديقكم } أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به ، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط ، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم ، أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم . { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده . أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلى معه . أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة . { فإذا دخلتم بيوتا } من هذه البيوت { فسلموا على أنفسكم } على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة . { تحية من عند الله } ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، ويجوز أن تكون من صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم . { مباركة } لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب . { طيبة } تطيب بها نفس المستمع . وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي " متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين " . { كذلك يبين الله لكم الآيات } كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو بما هو المقصود منه فقال : { لعلكم تعقلون } أي الحق والخير في الأمور .
اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه «الحرج » عن الأصناف الثلاثة ، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان بالأكمل ، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص ، فالحرج مرفوع عنهم في هذا . فأما ما قال الناس في هذا «الحرج » هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم ، وقوله : { ولا على أنفسكم } الآية معنى مقطوع من الأول ، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً لجولان اليد من { الأعمى } ولانبساط الجلسة من { الأعرج } ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت مؤيدة ، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في { الأعمى } وللعجز عن المزاحمة في { الأعرج } ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم ، وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن ، وقال ابن عباس أيضاً الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس ، لما نزلت { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[8760]} [ البقرة : 188 ] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل ، وكذلك تحرجوا عن أكل الطعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه ، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو ، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم ، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب ، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك ، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك ، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء ، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله { من بيوتكم } لأن بيت ابن الرجل بيته ، وقرأ طلحة بن مصرف «إمهاتكم » بكسر الهمزة وقوله : { أم ما ملكتم مفاتحه } يعني ما حزتم وصار في قبضتكم ، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد ، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف ، وقرأ جمهور الناس «مَلَكتم » بفتح الميم واللام ، وقرأ سعيد بن جبير «مُلِّكتم » بضم الميم وكسر اللام وشدها ، وقرأ جمهور الناس «مفاتحه » ، وقرأ سعيد بن جبير «مفاتيحه » بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مَفتح والثانية على جمع مُفتاح{[8761]} ، وقرأ قتادة «ملكتم مفاتحه » وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق ، قال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب{[8762]} ؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان ؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش : الصديق أوكد من القرابة ، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين
{ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[8763]} [ الشعراء : 100 ] وقوله { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفراداً البتة ، قاله الطبري ، ومن ذلك قول بعض الشعراء : [ الطويل ]
إذا صنعت الزاد فالتمسي له . . . أكيلاً فإني لست آكله وحدي{[8764]}
وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب ، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد ، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام »{[8765]} وبقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا }{[8766]} [ النور : 27 ] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه » الحديث{[8767]} ، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت ، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد ، فقال إبراهيم النخعي : أراد المساجد ، والمعنى سلموا على من فيها من صنفكم فهذا كما قال { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }{[8768]} [ التوبة : 128 ] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله { تحية } مصدر{[8769]} ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله { كذلك } كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات { لعلكم } تعقلونها وتعملون بها ، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة ، فإذا كان الإذن محجوراً فالطعام أحرى ، وكذلك أيضاً فرضت فرقة نسخاً بينها وبين قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[8770]} [ البقرة : 188 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة ، أما قوله { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه ، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة ، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله .