في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

111

وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان ، وورد أنهما مدنيتان . ونحن نأخذ بهذا الأخير ، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم . آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه ، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم . ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق . والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى ، فهو وليه وناصره وكافيه :

( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم )

ولم يقل : جاءكم رسول منكم . ولكن قال : ( من أنفسكم ) وهي أشد حساسية وأعمق صلة ، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به . فهو بضعة من أنفسهم ، تتصل بهم صلة النفس بالنفس ، وهي أعمق وأحسن .

( عزيز عليه ما عنتم ) . .

يشق عليه عنتكم ومشقتكم .

( حريص عليكم ) . .

لا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ؛ فإذا هو كلفكم الجهاد ، وركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من جنسكم عربي مثلكم . وقرئ من " أنفسكم " أي من أشرفكم . { عزيز عليه } شديد شاق . { ما عنتم } عنتكم ولقاؤكم المكروه . { حريص عليكم } أي على إيمانكم وصلاح شأنكم . { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم . { رءوف رحيم } قدم الأبلغ منهما وهو الرءوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

وقوله تعالى : { لقد جاءكم } مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام ، وقال الزجّاج : هي مخاطبة لجميع العالم ، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب ، وقوله { من أنفسكم } يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها{[5985]} ، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم »{[5986]} ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إني من نكاح ولست من سفاح »{[5987]} معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من من نكاح ولم يكن فيه زنى ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفَسكم » بفتح الفاء من النفاسة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { ما عنتم } معناه عنتكم ف { ما } مصدرية وهي ابتداء ، و { عزيز } خبر مقدم ، ويجوز أن يكون { ما عنتم } فاعلاً ب { عزيز } و { عزيز } صفة للرسول ، وهذا أصوب من الأول{[5988]} والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضاً معه ، وقال قتادة : المعنى عنت مؤمنيكم .

قال القاضي أبو محمد : وتعميم عنت الجميع أوجه ، وقوله : { حريص عليكم } يريد على إيمانكم وهداكم ، وقوله : { رؤوف } معناه مبالغ في الشفقة ، قال أبو عبيدة : الرأفة أرق الرحمة ، وقرأ «رؤف » دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو{[5989]} .


[5985]:- في جميع النسخ الأصلية جاء (وشرفها) بدون الهمزة، والمعنى يقتضي وجودها، وقد نقل أبو حيان في البحر كلام ابن عطية كما أثبتناه هنا.
[5986]:- أخرجه ابن سعد، ومسلم، والترمذي، والبيهقي في الدلائل عن واثلة بن الأسقع، وفي أوله: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى إسماعيل من بني كنانة) الحديث. (الدر المنثور).
[5987]:- أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح). (الدر المنثور). وأخرجه ابن عدي في الكامل، والطبراني في الأوسط عن علي كرم الله وجهه بزيادة في آخره (من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث حسن.
[5988]:- فيكون المعنى على هذا: يعزّ عليه مشقتكم، كما قال الشاعر: يسرُّ المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا أي: يسر المرء ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون [عزيز] مبتدأ و{ما عنتم} هو الخبر وأن تكون (ما) بمعنى الذي، ذكره الحوفي، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين كما قال أبو حيان الأندلسي في "البحر".
[5989]:-وصف الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بستة أوصاف، الأولى: الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية وأنه من الخيار بحيث صار أهلا لأن يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدأ بها. والثانية: أنه من أنفسهم، وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان الخطاب للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيها التنويه بهم واللطف في إيصال الخير إليهم. والثالثة: أنه يعزّ عليه ما يشق عليهم فهذا الوصف من نتائج الرسالة ومن نتائج أنه منهم لأن من كان منك دلّك على الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك، والرابعة: حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، وهذه أيضا من نتائج الرسالة. والصفتان الخامسة والسادسة أنه رءوف رحيم بالمؤمنين، وهذا من نتائج التبعية له والدخول في دين الله، وصدق الله: {إنما المؤمنون إخوة}. هذا وقد قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: {بالمؤمنين رءوف رحيم}، وقال تعالى: {إن الله بالناس لرءوف رحيم}.