( يحلفون باللّه ما قالوا . ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) . .
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم ، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول - [ ص ] - وللمسلمين . . وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية :
قال قتادة : نزلت في عبد اللّه بن أبي . وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد اللّه للأنصاري : ألا تنصرون أخاكم ? واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - [ ص ] - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف باللّه ما قاله ، فأنزل اللّه فيه هذه الآية .
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه - [ ص ] - جالساً تحت ظل شجرة ، فقال : " إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول اللّه - [ ص ] - فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك ? " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا باللّه ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل اللّه عز وجل : يحلفون باللّه ما قالوا . . . الآية .
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه : أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت . كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال عمير : واللّه يا جلاس : إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ؛ ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عَلّي من الأخرى . فأخبر بها رسول اللّه - [ ص ] - فأنكرها وحلف باللّه ما قالها ، فأنزل اللّه الآيات . فقال الرجل قد قلته ، وقد عرض اللّه عليّ التوبة ، فأنا أتوب ، فقبل منه ذلك . .
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة : ( وهموا بما لم ينالوا )وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة ، من قتل رسول اللّه - [ ص ] - غيلة وهو عائد من تبوك . فنختار إحداها :
قال الإمام أحمد - رحمه اللّه - حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد اللّه بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول اللّه - [ ص ] - من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى : إن رسول اللّه - [ ص ] - أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد . فبينما رسول اللّه - [ ص ] - يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول اللّه - [ ص ] - فأقبل عمار - رضي اللّه عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة " قد . قد " حتى هبط رسول اللّه - [ ص ] - ، ورجع عمار . فقال يا عمار : " هل عرفت القوم ? " فقال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون . قال : " هل تدري ما أرادوا ? " قال : اللّه ورسوله أعلم . قال : " أرادوا أن ينفروا برسول اللّه - [ ص ] - راحلته فيطرحوه " قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] فقال : نشدتك باللّه ، كم تعلم كان أصحاب العقبة ? قال : أربعة عشر رجلاً . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعد رسول اللّه - [ ص ] - منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله [ ص ] وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب للّه ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم . وسواء كانت هي أو شيء مثلها هو الذي تعنيه الآية ، فإنه ليبدو عجيبا أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة . والنص يعجب هنا منهم :
( وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله ) . .
فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها . . اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام ، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون !
ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم ، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه . فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح . ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج ، فالعاقبة كذلك معروفة : العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض . . ولمن شاء أن يختار ، وهو وحده الملوم :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
{ يحلفون بالله ما قالوا } روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته . { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام . { وهمّوا بما لم ينالوا } من فتك الرسول ، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وما نقموا } وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم . { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فلما قدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى . والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل . { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في { يك } للتوب . { وإن يتولّوا } بالإصرار على النفاق . { يعذّبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } بالقتل والنار . { وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير } فينجيهم من العذاب .
وقوله { يحلفون بالله ما قالوا } الآية ، هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق ، وقال عروة اسمه مصعب ، وقال غيره وهما على حمارين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى قوماً ممن اتهمهم بالنفاق ، وقال إنهم رجس ، فقال الجلاس للذي كان يسير معه : والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا ، ولئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من حمرنا هذه فقال له ربيبة أو الرجل الآخر ؟ والله إنه لحق ، وإنك لشر من حمارك ، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك ، فخرج وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية{[5790]} ، والإشارة ب { كلمة الكفر } إلى قوله : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمر ، إن التكذيب في قوة هذا الكلام ، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل عجزاً عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله { وهموا بما لم ينالوا } ، وقال قتادة بن دعامة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فثاروا ، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين ، فثار الناس فهدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك ، فنزلت الآية مكذبة له{[5791]} ، والإشارة ب { كلمة الكفر } إلى تمثيله : سمن كلبك يأكلك ، قال قتادة والإشارة ب { هموا } إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة ، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا ، وقال تعالى : { بعد إسلامهم } ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم ، وقوله تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله } ، معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له ، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفاً ، وقيل بل كانت للجلاس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها ، وتقدم اختلاف القراء في { نقموا } في سورة الأعراف ، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف ، وهي لغة ، وقوله { إلا أن أغناهم الله } استثناء من غير الأول كما قال النابغة :
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم*** بهن فلول من قراع الكتائب{[5792]}
فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر ، وقال مجاهد في قوله { وهموا بما لم ينالوا } إنها نزلت في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يناسب الآية ، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند ، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم ، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي »{[5793]} ، ثم فتح عز وجل لهم باب التوبة رفقاً بهم ولطفاً في قوله { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } .
وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال : إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص ، وحسنت توبته ، و «العذاب الأليم » اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين .