وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء :
( وكتبنا عليهم فيها : أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله .
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى :
( فمن تصدق به فهو كفارة له ) . .
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ؛ لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . .
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد " الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : " ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد [ ص ] فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص :
من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه .
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .
روى الإمام أحمد . قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية : سنرضيه . . فألح الأنصاري . . فقال معاويه : شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى : فإني قد عفوت " . .
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .
وتلك شريعة الله العليم بخلقة ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .
والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو( الظالمون ) .
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو ( من ) المطلق العام .
{ وكتبنا عليهم وفرضنا على اليهود . { فيها } في التوراة . { أن النفس بالنفس } أي أن النفس تقتل بالنفس . { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، { وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع { والأذن بالأذن } وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع . { والجروح قصاص } أي ذات قصاص ، وقرأه الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل . { فمن تصدق } من المستحقين . { به } بالقصاص أي فمن عفا عنه . { فهو } فالتصدق . { كفارة له } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه . وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه . وقرئ " فهو كفارته له " أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء . { ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره . { فأولئك هم الظالمون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن التوراة، فقال سبحانه: {وكتبنا عليهم فيها}، يعني وفرضنا عليهم في التوراة، نظيرها في المجادلة: {كتب الله} [المجادلة: 21]، يعني قضى، {أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له}، يقول: فمن تصدق بالقتل والجراحات، فهو كفارة لذنبه، يقول: إن عفى المجروح عن الجارح، فهو كفارة للجارح من الجرح، ليس عليه قود ولا دية.
{ومن لم يحكم بما أنزل الله} في التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات، {فأولئك هم الظالمون} [آية: 45].
361- يحيى: قال مالك القصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال. والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء. وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} فذكر الله تبارك وتعالى أن النفس بالنفس. فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر. وجرحها بجرحه. {والعين بالعين} [المائدة: 45]. 362- يحيى: سئل مالك عن شتر العين وحجاج العين؟ فقال: ليس في ذلك إلا الاجتهاد. إلا أن ينقص بصر العين، فيكون له بقدر ما نقص من بصر العين. 363- ابن العربي: قال مالك: إن شاء فقأ عينه أو أخذ دية كاملة.
{والسن بالسن} [المائدة: 45]. 364- المهدوي: قال مالك: الثنية بالثنية، والرباعية بالرباعية، والعليا بالعليا والسفلى بالسفلى، لا تقاد سن إلا بمثلها. فإن لم يكن لها مثل فالعقل، ولا قصاص في كل مخوف. {والجروح قصاص} [المائدة: 45]. 365- يحيى: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن من كسر يدا أو رجلا عمدا أنه يقاد منه ولا يعقل. قال مالك: ولا يقاد من أحد حتى تبرأ جراح صاحبه فيقاد منه فإن جاء جرح المستقاد منه مثل جرح الأول حين يصح فهو القود. وإن زاد جرح المستقاد منه أو مات فليس على المجروح الأول المستقيد وإن برأ جرح المستقاد منه وشل المجروح الأول أو برأت جراح وبها عيب أو نقص أو عثل، فإن المستقاد منه لا يكسر الثانية ولا يقاد بجرحه. قال: ولكنه يعقل له بقدر ما نقص من يد الأول أو فسد منها. والجراح في الجسد على مثل ذلك. وعن مالك أنه بلغه أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ.
ذكر الله ما فرض على أهل التوراة فقال عز وجل:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}. وروي في حديث عن عمر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي.
ولم أعلم مخالفا في أن القصاص في هذه الأمة كما حكم الله عز وجل: أنه حكم به بين أهل التوراة، ولم أعلم مخالفا في أن القصاص بين الحرين المسلمين في النفس وما دونها من الجراح التي يستطاع فيها القصاص بلا تلف يخاف على المستقاد منه من موضع القود.
والقصاص ما دون النفس شيئان: جرح يشق بجرح، وطرف يقطع بطرف. (الأم: 6/50. ون الأم: 7/333. وأحكام الشافعي: 1/280-281.)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. قال: ولا يجوز ـ والله أعلم ـ في حكم الله تبارك وتعالى بين أهل التوراة أن كان حكما بينا إلا ما جاز في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـانًا فَلا يُسْرِف فِّي اِلْقَتْلِ} ولا يجوز فيها إلا أن تكون كل نفس محرمة القتل، فعلى من قتلها القود. فيلزم من هذا أن يقتل المؤمن بالكافر المعاهد، والمستأمن، والصبي، والمرأة من أهل الحرب، والرجل بعبده وعبد غيره مسلما كان أو كافرا، والرجل بولده إذا قتله.
أو يكون قول الله تبارك وتعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} ممن دمه مكافئ دم من قتله، وكل نفس كانت تقاد بنفس، بدلالة كتاب الله عز وجل أو سنة أو إجماع، كما كان قول الله عز وجل: {وَالأنثى بِالأنثى} إذا كانت قاتلة خاصة، لا أن ذكرا لا يقتل بأنثى. وهذا أولى معانيه به، والله أعلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله. ويعني بقوله: "كَتَبْنا": فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حقّ بالنفس، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة. "والعَيْنَ بالعَيْن": وفرضنا عليهم فيها أن يفقؤوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، وتقلع السنّ بالسنّ، ويقتصّ من الجارح غيره ظلما للمجروح. وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوّته وإدباره عنه بعد إقباله، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصَنين، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قَوَد، ومن فقأ عينا بغير حقّ فعينه بها مفقوءة قصاصا، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنَا فسنه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتصّ منه مثل الجرح الذي جرحه، ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول: فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى.
"فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ": عُني بذلك المجروحُ وولي القتيل. عن عبد الله بن عمرو: "فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ "قال: يُهدم عنه -يعني المجروح- مثل ذلك من ذنوبه.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار، فاندقت ثَنِيّته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحّ عليه الرجل، قال معاوية: شأنَك وصاحَبك قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلاّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً». فقال له الأنصاريّ: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعتْه أذناني ووعاه قلبي. فخّلى سبيل القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمال.
حدثنا محمود بن خِداش، قال: حدثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قال ابن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدّقَ بِها، كُفّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ ما تَصَدّقَ بِهِ».
وقال آخرون: عَنَى بذلك الجارحَ، وقالوا معنى الآية: فمن تصدّق بما وجب له من قَوَدَ أو قصاص على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم، كما القصاص منه كفارة له قالوا: فأما أجر العافي المتصدّق فعلى الله...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني به: "فمن تصدّق به فهو كفارة له": المجروح؛ فلأن تكون الهاء في قوله «له» عائدة على "مَن "أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات.
فإن ظنّ ظانّ أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه: «أنْ لا تَقْتُلُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِقوا» ثم قال: «فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدّهُ، فَهُوَ كَفّارَتُه». فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، (5) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله. فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف -الذي وصفنا أمره- أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه.
فإن قال قائل: أو ليس لمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص؟ قيل له: بلى. فإن قال: أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الاَخرة تبعة؟ قيل له: هذا كلام عندنا محال، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم. وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صحّ لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوّ له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لأن الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به، إن لم يتب من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبّ أم سَخِط، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفّارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفّارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحقّ منها تنصلاً من ذنبه، بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله: «فمن أُقيم عليه الحَدّ فهو كَفّارَتُهُ». ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «فمن تَصَدّق بدَمٍ»، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل. وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير... عن مجاهد، قال: إذا أصاب رجل رجلاً ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب، قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون، فقال له: يا هذا أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنا بها.
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قبل المصيب في الدنيا ولا في الاَخرة لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه، فإبراؤه منه كفّارة له من حقه الذي كان له أخذه به، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الاَخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحقّ به العقوبة من ربه لأن الله عزّ وجلّ قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم، فقال في كتابه: "لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُ
و"التصدق"، في هذا الموضع بالدم: العفو عنه.
"وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ": ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلما قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعض ولم يُقِد من بعض، أو قتل في بعضِ اثنين بواحد، فإن من يفعل ذلك من الظالمين، يعني ممن جار على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا.
قوله في نسق الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} دليلٌ على ثبوت هذا الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين، أحدهما: أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان، فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يَرِدَ نسخُه. والثاني: معلومٌ أنهم استحقوا سِمَةَ الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية، إما جحوداً له أو تركاً لفعل ما أوجب الله من ذلك، وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...معنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله: {النفس بالنفس} فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم. {والجروح قصاص} هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. و«القصاص» مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
.. نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ختام هذه الآيات في ترهيب المعرض عن الحكم بما أنزل الله مطابقاً لقوله في أول سياق المحاربة {ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} رجع إلى القتل مبيناً أنهم بدلوا في القتل كما بدلوا في الزنا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، فقال: {وكتبنا} أي بما لنا من العظمة {عليهم فيها} أي في التوراة، عطفاً على قوله {كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس} وإذا أنعمت النظر وجدت ما بينهما لشدة اتصاله وقوة الداعية إليه كأنه اعتراض {أن النفس} أي مقتولة قصاصاً مثلاً بمثل {بالنفس} أي بقتل النفس بغير وجه مما تقدم {والعين} أي تقلع {بالعين} أي قلعت بغير شبهة {والأنف} يجدع {بالأنف} كذلك {والأذن} تصلم {بالأذن} على ما تقدم {والسن} تقلع {بالسن} إذا قلعت عمداً بغير حق {والجروح} أي التي تنضبط كلها {قصاص} مثلاً بمثل سواء بسواء.
ولما أوجب سبحانه هذا، رخص لهم في النزول عنه، فسبب عن ذلك قوله: {فمن تصدق به} أي عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقياً أو وارثه إن كان هالكاً {فهو} أي التصدق بالقصاص {كفارة له} أي ستارة لذنوب هذا العافي ولم يجعل لهم دية، إنما هو القصاص أو العفو، فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون لانقيادهم في هذا الأمر الصعب لأمر الله (ومن لم يحكم) أي على وجه الاستمرار {بما أنزل الله} أي الذي لا كفوء له فلا أمر لأحد معه لخوف أو رجاء، أو تديناً بالإعراض عنه سواء حكم بغيره أو لا {فأولئك} أي البعداء عن طريق الاستقامة، البغضاء إلى أهل الكرامة {هم الظالمون} أي الذين تركوا العدل فضّلوا، فصاروا كمن يمشي في الظلام، فإن كانا تديناً بالترك كان نهاية الظلم وهو الكفر، وإلا كان عصيانا، لأن الله أحق أن يخشى ويرجى، روى ابن إسحاق في السيرة في تحاكمهم في الزنا نحو ما تقدم ثم قال: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] إلى: {المقسطين} إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير وكان لهم شرف -يؤدون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء "قال ابن إسحاق: فالله أعلم أيّ ذلك كان! وأخرجه النسائي في سننه من طريق ابن إسحاق، وروي من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، قال: كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدى مائة وسق من تمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42] والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت
{أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50] انتهى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فمن جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح، حدا، وموضعا، وطولا، وعرضا وعمقا، وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله، يعود السياق، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا -بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء:
(وكتبنا عليهم فيها: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص)..
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان. وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام، لاعتبارات عملية بحتة؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام. وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة، للأزمان كافة، كما أرادها الله.
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى:
ولم يكن ذلك في شريعة التوراة. إذ كان القصاص حتما؛ لا تنازل فيه، ولا تصدق به، ومن ثم فلا كفارة..
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال.
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص، هو مبدأ المساواة.. المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة.. ولم تكن شريعة أخرى- غير شريعة الله -تعترف بالمساواة بين النفوس، فتقتص للنفس بالنفس، وتقتص للجوارح بمثلها، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس..
النفس بالنفس. والعين بالعين. والأنف بالأنف. والأذن بالأذن. والسن بالسن. والجروح قصاص.. لا تمييز. ولا عنصرية. ولا طبقية. ولا حاكم. ولا محكوم.. كلهم سواء أمام شريعة الله. فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله.
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد "الإنسان "الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة.. أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد. وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة.
وهو أول إعلان.. وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي.
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم- التوراة -عنه؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب، حيث كانوا يقولون: "ليس علينا في الأميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم. على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة، وبني النضير العزيزة؛ حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم فردهم إلى شريعة الله- شريعة المساواة.. ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء!
والقصاص على هذا الأساس العظيم -فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه، وما زينه له اندفاعه؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل -دون نظر إلى نسبه أو مركزه، أو طبقته، أو جنسه- وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة. إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه.. وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن -طالت مدة السجن أو قصرت- فالألم في البدن، والنقص في الكيان، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن.. على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة.. والقصاص على هذا الأساس العظيم -فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة؛ والذي يذهب بحزازات النفوس، وجراحات القلوب، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية.. وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات. ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص..
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة -كما لحظها شرع الله في التوراة- حتى إذا ضمن لها القصاص المريح.. راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو -عفو القادر على القصاص:
من تصدق بالقصاص متطوعا.. سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تعزير القاتل بما يراه] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروح كلها، فتنازل عن القصاص.. من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه؛ يحط بها الله عنه.
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته. نفوسا لا يغنيها العوض المالي؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت.. فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد؟.. إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل، وتأمين الجماعة.. ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله..
روى الإمام أحمد. قال: حدثنا وكيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال "كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال معاوية: سنرضيه.. فألح الأنصاري.. فقال معاوية: شأنك بصاحبك!- وأبو الدرداء جالس -فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، أو حط به عنه خطيئة".. فقال الأنصاري: فإني قد عفوت"..
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض..
وتلك شريعة الله العليم بخلقة؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام.
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة، التي صارت طرفا من شريعة القرآن، يعقب بالحكم العام:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)..
والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو (الظالمون).
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر. وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله. فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله- سبحانه -واختصاصه بالتشريع لعباده، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس. وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، الصالحة المصلحة لأحوالهم. فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة، وتعرضها لعقاب الكفر. وبتعريض حياة الناس- وهو معهم -للفساد.
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط: (ومن لم يحكم بما أنزل الله).. فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو (من) المطلق العام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف (على)، أي أوجبنا عليهم فيها، أي في التّوراة مضمونَ {أنّ النّفس بالنّفس}، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً، كما اقتضت تعديّة فعل {كتبنا} بحرف (في) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته، ومجازه.
وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً، والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من (أنّ). والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص.
وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة (أنّ) هنا، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها.
.. وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حرباً، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة، فشرطت النضير على قريظة أنّ ديّة النضيري على الضِعف من ديّة القُرظي وعلى أنّ القرظي يُقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم. وهذا كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} إلى قوله {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 84، 85]. ويجوز أن يقصد من ذلك أيضاً تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايُل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود. ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولاً في النّفوس، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأقوام والأزمان، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص...
...وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون} لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شُرع لحكم عظيمة: منها الزجر، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم. فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح، وهْو ظلم، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو ولِيّه. وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو. ولم ينبّه عليه المفسّرون. وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه.
وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون} القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم. والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّداً للّذي في الآية السابقة. ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشرح هذه الآية الكريمة قسماً آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإِلهية التي وردت في التّوراة، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين تخص القصاص، وتبيّن أن من يقتل انساناً بريئاً فإِنّ لأولياء القتيل حق القصاص من القاتل بقتله نفساً بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس).
كما بيّنت أن من يصيب عين انسان آخر ويتلفها، يستطيع هذا الإِنسان المتضرر في عينه أن يقتص من الفاعل ويتلف عينه، إِذ تقول الآية في هذا المجال: (والعين بالعين...).
وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الأُخرى، (والأنف بالأنف والأُذن بالأُذن والسن بالسن والجروح قصاص...).
وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة، دون الالتفات إلى عنصره أو قوميته أو طبقته الاجتماعية أو طائفته، ولا مجال أبداً لاستخدام التمايز القومي أو الطبقي أو الطائفي لتأخير تطبيق حكم القصاص على الجاني.
وبديهي أنّ تطبيق حكم القصاص على المعتدي شأنه شأن الأحكام الإِسلامية الأُخرى، مقيد بشروط وحدود ذكرتها كتب الفقه، ولا يختص هذا الكلام ولا ينحصر ببني إِسرائيل وحدهم، لأنّ الإِسلام أيضاً جاء بنظيره كما ورد في آية القصاص في سورة البقرة الآية (178).
وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت حيث ذكرت بعض التفاسير أنّ تمايزاً غريباً كان يسود بين طائفتين من اليهود، هما بنو النضير وبنو قريظة الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة في ذلك العصر، لدرجة أنّه إِذا قتل أحد أفراد طائفة بني النضير فرداً آخر من طائفة بني قريظة فالقاتل لا ينال القصاص، بينما في حالة حصول العكس فإن القاتل الذي كان من طائفة بني قريظة كان ينال القصاص إِن هو قتل واحداً من أفراد طائفة بني النضير.
ولمّا امتد نور الإِسلام إلى المدينة سأل بنو قريظة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر، فأكّد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا فرق في الدماء بين دم ودم... فاعترضت قبيلة بني النضير على حكم النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وادعت أنّ حكمه حطّ من شأنهم، فنزلت الآية الأخيرة وبيّنت أنّ هذا الحكم غير مختص بالإسلام، بل حتى الديانة اليهودية أوصت بتطبيق قانون القصاص بصورة عادلة 765.
ولكي لا يحصل وَهْمٌ أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر الزامي لا يمكن الحيدة عنه، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أن الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية (فمن تصدق به فهو كفارة له...).
ويجب الانتباه إلى أنّ الضمير الوارد في كلمة (به) يعود على القصاص، وكانت الآية جعلت التصدق بالقصاص عطية أو منحة للجاني واستخدام عبارة «التصدق» والوعد الذي قطعه الله للمتصدق، يعتبران عاملا محفزاً على العفو والصفح، لأنّ القصاص لا يمكنه أن يعيد للإِنسان ما فقده مطلقاً، بل يهبه نوعاً من الهدوء والاستقرار النفسي المؤقت، بينما العفو الذي وعد به الله للمتصدق، بإمكانه أن يعوضه عما فقده بصورة أُخرى، وبذلك يزيل عن قلبه ونفسه بقايا الألم والاضطراب، ويعتبر هذا الوعد خير محفز لمثل هؤلاء الأشخاص.
وقد ورد عن الحلبي قال سألت أبا عبد اللّه الإِمام الصادق (عليه السلام) عن قوله اللّه عزّ وجلّ: (فمن تصدق به فهو كفارة لهو..) قال: «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى».
وتعتبر هذه الجملة القرآنية في الحقيقة خير جواب مفحم للذين يزعمون أن القصاص ليس بقانون عادل، ويدعون أنّه يشجع روح الانتقام والمثلة.
والذي يفهم من الصياغة العامّة للآية هو أنّ جواز القصاص إِنّما هو لإِخافة وإِرعاب الجناة وبالنتيجة لضمان الأمن لأرواح الناس الأبرياء، كما أنّ الآية فتحت باب العفو والتوبة، وبذلك أراد الإِسلام أن يحول دون ارتكاب مثل هذه الجرائم باستخدام الروادع والحوافز كالخوف والأمل، كما استهدف الإِسلام من ذلك أيضاً الحيلولة دون الانتقام للدم بالدم بقدر الإِمكان إِذا استحق الأمر ذلك.
وفي الختام تؤكّد الآية قائلة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الظّالمون).
وأي ظلم أكبر من الانجرار وراء العاطفة الكاذبة، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجّة لا ضرورة في غسل الدم بالدم، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل أُخرى، وبالنهاية الإِساءة عبر هذا التغاضي إلى أفراد أبرياء، وممارسة الظلم بحقّهم نتيجة لذلك.
ويجب الانتباه إلى أنّ التّوراة المتداولة حالياً قد اشتملت على هذا الحكم أيضاً.