في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

1

ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء ، كما فصل في أول السورة صفة المتقين ؛ فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف ، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور :

( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون ) . .

فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟

لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة ، وتصوير نماذج ، لا مجال تسجيل حادثة ، أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ؛ وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ؛ وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة ، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة ، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ؛ وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .

وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ؛ والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !

( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) . .

وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة : إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه ، وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله ، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده ، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه ، فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .

( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . .

والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية ، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى ، وانحلت الروابط ، ووقع الفساد في الأرض ، وعمت الفوضي .

( ويفسدون في الأرض ) . .

والفساد في الأرض ألوان شتى ، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما ، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض ، ومنهج الله بعيد عن تصريفها ، وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال ، وللحياة والمعاش ؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .

إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

{ الذين ينقضون عهد الله } صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق . والنقض : فسخ التركيب ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر ، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحا . للمجاز ، وإن ذكر مع العهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته . والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ، ويقال للدار ، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها . والتاريخ لأنه يحفظ ، وهذا العهد : إما العهد المأخوذ بالعقل ، وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله ، وعليه أول قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم } أو : المأخوذ بالرسل على الأمم ، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وإليه أشار بقوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونظائره . وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه .

{ من بعد ميثاقه } الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر ، و{ من } للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق .

{ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى ، كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير . أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، والأمر هو للقول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلو ، وقيل : مع الاستعلاء ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر ، فإنه مما يؤمر به كما قيل له شأن وهو الطلب . والقصد يقال : شأنت شأنه ، إذا قصدت قصده . و{ أن يوصل } يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما ، أو ضميره . والثاني أحسن لفظا ومعنى .

{ ويفسدون في الأرض } بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه .

{ أولئك هم الخاسرون } الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية ، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتراء النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب .