في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

1

ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .

ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .

على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم ، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .

وزيادة في الإيضاح ، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها ، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا :

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( 18 )

إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصموا آذانهم عن السماع ، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك ، كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار ، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ ( ذهب الله بنورهم ) الذي طلبوه ثم تركوه : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) جزاء إعراضهم عن النور !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء . والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله تعالى { ولله المثل الأعلى } . والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد . والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها . واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا .

{ فلما أضاءت ما حوله } أي النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران . وقيل للعام حول لأنه يدور . { ذهب الله بنورهم } جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا إنما قال : { بنورهم } ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها . أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد قد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان . والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } للإيجاز وأمن الالتباس . وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان . وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : { وتركهم في ظلمات } وقول الشاعر :

فتركته جزر السباع ينشنه *** يقضمن حسن بنانه والمعصم

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية ، وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } . أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول { لا يبصرون } من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد .

والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعدما آمن ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم . والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها .