في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

95

( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) . .

ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :

( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) . .

وهذه الدرجة يمثلها رسول الله [ ص ] في مقامهم في الجنة .

في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ ص ] قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . .

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبى عبيدة ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " من رمى بسهم فله أجره درجة " . . فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال :

" أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام " .

وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله [ ص ] ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها ؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله [ ص ] يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب !

ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير اولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :

( وكلا وعد الله الحسنى ) . .

فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال ؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان ؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب ؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير ؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .

فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى ؛ مؤكدا لها ، متوسعا في عرضها ؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :

وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا .

وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .

هذا كله يشي بحقيقتين هامتين :

الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد منها ، وازدرائها ؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من " واقعها " ! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .

والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق ؛ وطبيعة البشر ؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .

إن " الجهاد " ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة ! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر اللإمبراطوريات ؛ فاندس في تصوراتأهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن !

هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصلية لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله ؛ في مثل هذا الأسلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله [ ص ] وفي مثل هذا الأسلوب . .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله [ ص ] تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .

ولئن كان [ ص ] رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي [ ص ] أجاهد . قال : " لك أبوان ؟ " قال : نعم . قال ، " ففيهما جاهد " . . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة ؛ وفرد واحد لا ينقض المجاهدين الكثيرين . ولعله [ ص ] على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .

فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف !

وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين !

إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغدا . وفي كل أرض ، وفي كل جيل !

وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفا . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر : إلى العدوان ؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !

هذه جبلة ! وليست ملابسة وقتية . . .

هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .

ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير . ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحارا . أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين !

ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب ؛ أو يقدر لهم الاستشهاد ؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .

هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .

وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه " شهداء " ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

{ لا يستوي القاعدون } عن الحرب . { من المؤمنين } في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه . { غير أولي الضرر } بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد بهم قوم بأعيانهم أو بدل منه . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء . وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه . وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم : وكيف وأنا أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة . وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته . { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق ، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه ، أو الحال بمعنى ذوي درجة . { وكلا } من القاعدين والمجاهدين وعد الله الحسنى المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما .