والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة . .
ولقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية ، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا ، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية ، وتطلقها فتنة للنفوس ، وإغراء للغرائز ، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : ( الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . . ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل ؛ وليوثق الروابط والوشائج ، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى ، وعند الانفعال الأول :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته ، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات ! إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات ! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج ، حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه ، فمنعها من الناس ، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة ! فإن كانت جميلة تزوجها ؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي نفسها منه بمال ! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه ، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه !
وكان بعضهم يطلق المرأة ، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد ؛ حتى تفتدي نفسها منه ، بما كان أعطاها . . كله أو بعضه !
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها !
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ، ويأخذ مالها !
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة ؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار ، أو علاقة بهائم !
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم ، اللائق بكرامة بني آدم ، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع ، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة ، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ، ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة ، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافا . بكرا أم ثيبا مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول ، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيرا فيما يكره ، هو لا يدريه . خيرا مخبوءا كامنا ، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجة سيلاقيه :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية ، تعلق النفس بالله ، وتهدىء من فورة الغضب ، وتفثأ من حدة الكره ، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء ؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه ، وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما ، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا ، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق ، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر ، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة ، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة ، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك . .
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه " لأنه لا يحبها " . . " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية وأين التذمم ؟ " . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم " الحب " وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها ! أليست لا تحبه ؟ ! وخيانة الزوج لزوجته ! أليس أنه لا يحبها ؟ !
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة ، ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوقة ! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس ، وترفع الاهتمامات ، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة ، وطمع التاجر ، وتفاهة الفارغ !
قال البخاري : حدثنا محمد بن مُقَاتل ، حدثنا أسْبَاط بن محمد ، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السَّوَائي ، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضُهم تزوجها ، وإن شاءوا زَوَّجُوها ، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك .
هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مَرْدُويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم{[6827]} .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي ، حدثني علي بن حُسَين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وذلك أن الرجل كان{[6828]} يرث امرأة ذي قرابته ، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها ، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
تفرد به أبو داود{[6829]} وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو{[6830]} ذلك ، فقال وَكِيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا ، كان أحق بها ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }{[6831]} .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى{[6832]} عليها حميمه{[6833]} ثوبه ، فمنعها من الناس . فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها .
وروى{[6834]} العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال زيد بن أسلم في الآية{[6835]} [ { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } ]{[6836]} كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضُلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة{[6837]} المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى{[6838]} بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به . ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت ، فجنَحَ عليها ابنُه ، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح ، فنزلت هذه الآية .
وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب{[6839]} أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ ، فأنزل الله : [ تعالى ]{[6840]} { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه . رواه ابن أبي حاتم . ثم قال : ورُوِيَ عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مِجْلَز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك .
قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي : لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك ، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } يقول : ولا تقهروهن { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } يعني : الرجل تكون له امرأة{[6841]} وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها{[6842]} لتفتدي .
وكذا قال الضحاك ، وقتادة [ وغير واحد ]{[6843]} واختاره ابن جرير .
وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرٌ قال : أخبرني سِمَاك بن الفضل ، عن ابن البَيْلمَاني{[6844]} قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمرالإسلام . قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } في الجاهلية { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } في الإسلام .
وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشَّعْبِيُّ ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومجاهد ، وعِكْرَمَة ، وعَطاء الخراسانيّ ، والضَّحَّاك ، وأبو قِلابةَ ، وأبو صالح ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ]{[6845]} } الآية[ البقرة : 229 ] .
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النُّشوز والعِصْيان .
واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبَذاء اللسان ، وغير ذلك .
يعني : أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[6846]} في قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
قال{[6847]} عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام .
قال عبد الرحمن بن زيد : كان العَضْل في قريش بمكة ، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن{[6848]} لا تُزوّج{[6849]} إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن{[6850]} لها ، وإلا عَضلها . قال : فهذا قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } الآية .
وقال مجاهد في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } هو كالعضل في سورة البقرة .
وقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : طيِّبُوا أقوالكم لهن ، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي " {[6851]} وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ ، يُداعِبُ أهلَه ، ويَتَلَطَّفُ بهم ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته ، ويُضاحِك نساءَه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك . قالت : سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني ، فقال : " هذِهِ بتلْك " {[6852]} ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل{[6853]} منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد .
وقوله تعالى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [ وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ]{[6854]} } أي : فعَسَى أن يكون صبركم مع{[6855]} إمساككم لهن وكراهتهن فيه ، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة . كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يَعْطف عليها ، فيرزقَ منها ولدًا . ويكون في ذلك الولد خير كثير{[6856]} وفي الحديث الصحيح : " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة ، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر " {[6857]} .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيساً واستطراداً ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } للتنويه بما خوطبوا به .
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ، والوليّ كذلك ، وولاة الأمور كذلك .
وصيغة { لا يحل } صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم .
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازاً على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه ، ومنه { يرث الأرض ومَن عليها } ، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : { فهب لي من لدنك وليا يرثني } [ مريم : 6 ] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال .
فتعدية فعل { أن ترثوا } إلى { النساء } من استعماله الأوّل : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : « كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوّها ، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية » وعن مجاهد ، والسدّي ، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها . وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مُسافراً ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماماً لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأمّ » .
وقد قيل : نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . وعلى هذا التفسير يكون قوله { كرهاً } حالا من النساء ، أي كارهات غير راضيات ، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجاً لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت .
وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبّة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات .
ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن ؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبَون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن }
عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ .
والعضل : منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } في سورة البقرة [ 232 ] .
فإن كان المنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } هو المعنى المتبادر من فعل ( ترثوا ) ، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ، فعطف { ولا تعضلوهن } إمّا عطف خاصّ على عامّ ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ، وأيّامّا كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج .
وإن كان المَنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء } المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثاً ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف { ولا تعضلوهن } عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } راجعاً إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] أي لا يقتل بعضكم أخاه ، إذ قد يعرف أنّ أحداً لا يقتل نفسه ، وكذلك { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي يسلم الداخل على الجالس . فالمعنى : ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ، فيكون في الضمير توزيع .
وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة . والذهاب في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } مجاز في الأخذ ، كقوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، أي أزاله .
ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضاً ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر . فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناءً من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتَوْهُنّ ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ، أي إلاّ حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ . ويحتمل أن يكون استثناء منقطعاً في معنى الاستدراك ، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يُحِلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فقيل : هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ . وهو قول عطاء .
والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ، لأنّها تسبّبت في بَعْثَرة حال بيت الزوج ، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان . فإنْ حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ . وإنّما لم يَجْعل المفاداةَ بجميع المهر لئلا تصير مدّةُ العصمة عريَّة عن عوض مقابل ، هذا ما يؤخذ من كلام الحَسن . وأبي قلابة ، وابن سيرين وعطاء ؛ لكن قال عطاء : هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ، فحرّم الإضرار والافتداء .
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحّاك ، وقتادة : الفاحشة هنا البغض والنشوز ، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها . قال ابن عطيّة : وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلاّ أني لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية .
وقرأ الجمهور : مبيِّنة بكسر التحتية اسم فاعل من بيَّن اللازم بمعنى تبيَّن ، كما في قولهم في المثل « بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَيْن » . وقرأه ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بفتح التحتية اسم مفعول من بيَّن المتعدي أي بيَّنها وأظْهَرَها بحيث أشْهَدَ عَليهنّ بها .
{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا }
أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة .
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة . وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل ، فعاشَره جَعَلَه من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخاً . أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها . وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر .
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكراً لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نَكِرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهاً ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس . والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف .
والتفريع في قوله : { فإن كرهتموهن } على لازم الأمر الذي في قوله : { وعاشروهن } وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية . وجملة { فعسى أن تكرهوا } نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها . وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً } يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سببَ خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق .
و { عَسَى } هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي . و{ أن تكرهوا } سادَ مسدّ معموليها ، { وَيَجْعَلَ } معطوف على { تكرهوا } ، ومناط المقاربةِ والرجاءِ هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك .
وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي . وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس . قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين « اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا . واللَّه ورسولُه أعلم » . وقد قال تعالى ، في سورة البقرة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] .
والمقصود من هذا : الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة . ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ، حتّى يسبره بمسبار الرأي ، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن .
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ، دون مقابلة ، كما في آية البقرة ( 216 ) { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطَرفيها إذ المخاطبون فيها كَرِهوا القتال ، وأحبّوا السلم ، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ، وخضد شوكة العدوّ ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ، وطمعهم فيهم ، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كَرّهه فيها ، ورام فراقها ، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ، فكان حاله مقتضياً بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شروراً لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم . وأُسند جعل الخير في المكروه هُنا للَّه بقوله : { ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } المقتضى أنه جَعْل عارض لمكروه خاصّ ، وفي سورة البقرة ( 216 ) قَال : { وهو خير لكم } لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجَعْل عارض ، بخلاف هذه الآية ، فإنّ الصبْر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ، يكون جعل الخير في ذلك جزاءً من الله على الامتثال .