ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود ، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب . ينتزعه من جو المشهد المعروض ، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد ، وفي الطبائع والحقائق :
( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ) .
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله [ ص ] بالأرض الطيبة ، وبالتربة الطيبة . والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة . فكلاهما . . القلب والتربة . . منبت زرع ، ومأتى ثمر . القلب ينبت نوايا ومشاعر ، وانفعالات واستجابات ، واتجاهات وعزائم ، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة . والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه . .
( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) . .
( والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ) . .
في إيذاء وجفوة ، وفي عسر ومشقة . .
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة . فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب ، تفتح واستقبل ، وزكا وفاض بالخير . وإن كان فاسداً شريراً - كالذي خبث من البلاد والأماكن - استغلق وقسا ، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر . وأخرج الشوك والأذى ، كما تخرج الأرض النكدة !
( كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ) .
والشكر ينبع من القلب الطيب ، ويدل على الاستقبال الطيب ، والانفعال الطيب . ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات . فهم الذين ينتفعون بها ، ويصلحون لها ، ويصلحون بها . .
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها . . كالإنذار والتذكير . وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق ، وسنصادفه فيما هو آت . . فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير ، كالإنذار والتذكير . .
وقوله : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا ، كما قال : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [ آل عمران : 37 ]
{ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } قال مجاهد وغيره : كالسباخ ونحوها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا حماد بن أسامة{[11841]} عن بُرَيد{[11842]} بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكانت منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا . وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت{[11843]} فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فَعَلم وَعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا . ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به " .
رواه مسلم والنسائي من طرق ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، به{[11844]}
جملة معترضة بين جملة : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وبين جملة : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملة : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين ، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين ، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله ، فموقع قوله : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قوله : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] ولذلك ذُيل هذا بقوله : { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .
والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرةَ بصنع الله ، والموعظَة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر ، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه .
والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطِّيبِ ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : { قل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة ( 4 ) ، وعند قوله : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة ( 168 ) .
والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه .
وقوله : { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله : { لِمَا خلقتُ بيَدَيّ } [ ص : 75 ] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام .
{ والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا ( يخرج ) نباتُه إلاّ نَكِداً ، فحُذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستترُ في فعل يخرج .
والذي يظهر لي : أن يكون { الذي } صادقاً على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِداً ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر . والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّباً بإذْن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .
وقرأ الجميع { لا يَخْرُج } بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم .
والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شراً . وقرأ أبو جعفر { إلا نكداً } ، بفتح الكاف .
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأساً ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به " . والإشارة بقوله : { كذلك نصرف الأيات } إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضاً على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضحِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل .
والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيهاً على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون } [ العنكبوت : 43 ] .