وأخيرا يمن الله على رسوله [ ص ] أن عصمه من الانسياق وراء المتأمرين المبيتين ؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم . . وهي المنة على البشرية كلها ، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله :
( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك . وما يضلون إلا أنفسهم . وما يضرونك من شيء . وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة . وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا ) .
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة ، شتى الألوان والأنواع ؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب . ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة . وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة . . وسيرة رسول الله [ ص ] حافلة بتلك المحاولات ؛ ونجاته وهدايته ؛ وضلال المتأمرين وخيبتهم .
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه ؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا . بفضل من الله ورحمة .
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة ؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم برىء وتبرئة جارم ، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة . . تجى ء المنة الكبرى . . منة الرسالة :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا .
وهي منة الله على " الإنسان " في هذه الأرض . المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا . ونشأ بها " الإنسان " كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى . .
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية ، لترقى بها في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة . عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب . .
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية . .
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله [ ص ] فلأنه هو أول من عرفها وذاقها . وأكبر من عرفها وذاقها . وأعرف من عرفها وذاقها . .
وقوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } قال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليَّ ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق . عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان - وذكر قصة بني أبيرق ، فأنزل الله : { لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } يعني : أُسَيْر بن{[8302]} عروة وأصحابه . يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم ، وهم صلحاء برآء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا أنزل الله فصل القضية{[8303]} وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة ، وهي السنة : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } أي : [ من ]{[8304]} قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ]{[8305]} } [ الشورى : 52 ، 53 ] وقال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 86 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }
ثم وقف الله تعالى على نبيه على مقدار عصمته له ، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى : { لهمت } معناه : لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه{[4279]} ، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة ، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت ، وإنما المعنى : ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء ، لكن العصمة تبطل كيد الجميع ، فيبقى الضلال في حيزهم ، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئاً » وقرر عليه نعمه لديه ، من إنزَال { الكتاب } المتلو ، { والحكمة } التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها ، وقريحة يعمل عنها ، وينظر بين الناس بها ، لا ينطق عن الهوى ، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم ، وباقي الآية بيّن .
قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك } عطف على { ولا تكن للخائنين خصيماً } [ النساء : 105 ] .
والمراد بالفضل والرحمة هنا نِعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه . وظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل . ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده ، وأنّ بني ظَفَر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ ، أوْ أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسِين خِيفة أن يُطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعاً لا هَمّا ، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنّما كان انتفاءُ همّهم تضليلَه فضلاً ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم .
وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إنّ المراد انتفاء أثره ، أي لولا فضل الله لضلِلْت بهمّهم أن يُضلّوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية . وفي هذا التفسير بُعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى .
ومعنى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أنّهم لو همُّوا بذلك لكان الضلال لاحقاً بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحقّ عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغِيا لضلالهم ، و { من } زائدة لتأكيد النفي . و { شيء } أصله النَّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله { يضرّونك } أي شيئاً من الضرّ ، وجُرّ لأجل حرف الجرّ الزائد .
وجملة : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } عطف على { وما يضرونك من شيء } . وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ولذلك ختمها بقوله : { وكان فضل الله عليك عظيماً } ، فهو مثل ردّ العجز على الصدر . والكتاب : والقرآن . والحكمة : النبوءة . وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّباتِ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولولا فضل الله عليك ورحمته}: ونعمته بالقرآن حين بين لك أمر طعمة، فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن، {لهمت طائفة منهم أن يضلوك}، يقول: لكادت طائفة من قوم الخائنين أن يستنزلوك عن الحق، {وما يضلون}: وما يستنزلون {إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء}: وما ينقصونك من شيء ليس ذلك بأيديهم، إنما ينقصون أنفسهم، ثم قال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}، يعني الحلال والحرام، {وعلمك ما لم تكن تعلم} من أمر الكتاب وأمر الدين، {وكان فضل الله عليك عظيما}: النبوة والكتاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ}: ولولا أن الله تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحقّ عن حقهم قبله {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ}: لهمت فرقة منهم، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، {أنْ يُضِلّوكَ}: يزلوك عن طريق الحق، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادّعي عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضلّ هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره إلا أنفسهم.
فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسهم؟ قيل: وجه إضلالهم أنفسهم: أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذ بها فيه من سبله، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان والأمر بالتعاون على الحقّ، فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم، فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه، أخذا منهم في غير سبيل الله، وذلك هو إضلالهم أنفسهم، الذي وصفه الله فقال: {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} وما يضرّك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحقّ في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء، لأن الله مثبتك ومسدّدك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحقّ في أمره وأمرهم، ففاضحه وإياهم.
{وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}: ومن فضل الله عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك الكتاب، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء، وهدى وموعظة، {والحِكْمَةَ}: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملاً ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده.
{وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خبر الأوّلين والاَخرين، وما كان، وما هو كائن قبل، ذلك من فضل الله عليك يا محمد مذ خلقك، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن، ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدّك عن سبيله.
وهذه الآية تنبيه من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على موضع حظه، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"أن يضلوك": يخطئوك، وليس هو الإضلال في الدين. ولكن إن كان ما قالوا فهو تخطئة الحكم. ويحتمل قوله: {أن يضلوك}: أن يجهلوك في حكم السرقة، ويجوز أن يكون جاهلا في سرقته لما لم يدر أنه سرق، وكاد يصدقه في الحكم أنه لم يسرق؛ لأنه إنما كان يعلم الأشياء بالوحي، ثم أعلم أنه قد سرق. ويحتمل أن تكون الآية في الكفار كلهم، لأن الكفرة والمنافقين لمن يزالوا يريدون أن يضلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهدى، ويصرفوه عنه كقوله تعالى: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} (النساء: 89) وكقوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا} (البقرة: 109). ثم يحتمل قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليك} وجهين:
أحدهما: حين عصمك بالنبوة، وإلا لأضلوك عن سبيل الله؛ وهو الهدى كقوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} (الإسراء: 74). والثاني: {ولولا فضل الله عليك ورحمته} حين أعلمك بالحكم في ذلك، ونصرك به بالوحي، وصرفك عن تصديق ذلك الخائن أو تثبيت ما قالوا، وإلا لهموا أن يخطئوك، ويجهلوك فيه...
وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} يخرج على وجهين:
والثاني: يعصمه عما راموا فيه: أن يظفروا منه بعد أن أظهروا ما طلبوا. وقوله تعالى: {يضلوك} يجهلوك الحكم بالتلبيس وأنواع التمويه؛ يرجع ذلك إلى أمرين؛ أحدهما: الزلة. والثاني: أن يكون الإضلال عن السبيل والحيل في الصرف عن الحق، وهذا هو الذي لم يزل أعداء الله يقصدون برسول الله وبجميع أهل الخير. فكفهم بوجهين: يتوجه كل وجه إلى وجهين: أحدهما: ظواهر الأسباب من الوحي، والثاني: الآيات، وكذا في كفهم مرة بالقتال والأسباب الظاهرة، ومرة باللطف والعصمة. وسمى ذلك فضلا ورحمة ليعرف أن ذلك فضله، ليس حقا قبله، إذ ليس بذل الحقوق الحقوق يعد في الفضائل.
{وما يضلون إلا أنفسهم}: لا أحد يقصد إضلال نفسه، لكن لما رجع حاصل ذلك الإضلال إلى أنفسهم، كأنهم ضلوا أنفسهم. {وما يضرونك من شيء}: أمن رسوله من ضرر أولئك كقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 67).
{وعلمك ما لم تكن تعلم}: من الحلال والحرام والأحكام كلها وغير ذلك كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى: 52) فهو كذلك كان. {وكان فضل الله عليك عظيما}: في ما علمك من الأحكام، وعصمك بالنبوة والرسالة، وصرف عنك ضرر الأعداء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الفضلُ إحسانٌ غيرُ مستحق، والإشارة ههنا -من الفضل- إلى عصمته إياه، فالحقُّ -سبحانه- عَصَمَه تخصيصاً له بتلك العصمة، وكما عصمه عن تَرْكِ حقه -سبحانه- عصمه بأن كفَّ عنه كيد خلقه فقال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} الآية. كلاَّ، لن يكونَ لأحدٍ سبيلُ إلى إضلالك فأنت في قبضة العزة، وما يُضِلُّونَ إلا أنفسهم، وما يضرونك بشيء، إذ المحفوظ منا محروس عن كل غير، وإنَّ الله سبحانه قد اختصك بإنزال الكتاب، واستخلصك بوجوه الاختصاص والإيجاب، وعلَّمك ما لم تكن تعلم، ولم يمن عليك بشيءٍ بمثل ما مَنَّ به على من خصَّه به من العلم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولولا فضل الله عليك ورحمته} بالنبوة والعصمة {لهمت} لقد همت {طائفة منهم} من قوم طعمة {أن يضلوك} أي يخطئوك في الحكم وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهودي {وما يضلون إلا أنفسهم} بتعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم الزور والبهتان {وما يضرونك من شيء} لأن الضرر على من شهد بغير حق ثم من الله عليه فقال {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أي القضاء بالوحي وبين لك ما فيه الحكمة...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- أعظم نعمة الله على عباده هو العلم وكشف الحق، والإيمان عبارة عن نوع كشف وعلم، ولذلك قال تعالى امتنانا على عبده: {وكان فضل الله عليك عظيما} [نفسه: 4/426]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} من بني ظفر {أَن يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم أن الجاني هو صاحبهم، فقد روي أن ناساً منهم كانوا يعلمون كنه القصة {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لأن وباله عليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شيء} لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في (منهم) إلى الناس. وقيل: الآية في المنافقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وقف الله تعالى على نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى: {لهمت} معناه: لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه 19، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت، وإنما المعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجميع، فيبقى الضلال في حيزهم، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئاً» وقرر عليه نعمه لديه، من إنزَال {الكتاب} المتلو، {والحكمة} التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها، وقريحة يعمل عنها، وينظر بين الناس بها، لا ينطق عن الهوى، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم،...
{ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك}: ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة، وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ.
ثم قال تعالى: {وما يضلون إلا أنفسهم} بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين.
{وما يضرونك من شيء} فيه وجهان: الأول: قال القفال رحمه الله: وما يضرونك في المستقبل، فوعده الله تعالى في هذه الآية بإدامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل.
الثاني: أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل، لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر.
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}:
واعلم أن إن فسرنا قوله {وما يضرونك من شيء} بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} مؤكدا لذلك الوعد، يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات، وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذورا في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر.
{وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}
قال القفال رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد ما يتعلق بالدين، كما قال {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان} وعلى هذا الوجه تقدير الآية: أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك.
الوجه الثاني: أن يكون المراد: وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم، ثم قال {وكان فضل الله عليك عظيما} وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل، كما قال {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلا، ثم أنه سمى ذلك القليل عظيما حيث قال {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وسمى جميع الدنيا قليلا حيث قال {قل متاع الدنيا قليل} وذلك يدل على غاية شرف العلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر، بين نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى: {ولولا فضل الله} أي الملك الأعلى {عليك} أي بإنزال الكتاب {ورحمته} أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك... {لهمت طائفة منهم} أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد {أن يضلوك} أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة،... {والحكمة} أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل، وعمم بقوله: {وعلمك ما لم تكن تعلم} أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا {وكان فضل الله} أي المتوحد بكل كمال {عليك عظيماَ} أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن بين الله تعالى هذه الأحكام والحكم والمواعظ المنطبقة على تلك الواقعة، ووجه إلى كل من له شأن فيها ما يناسبه في سياق هذه القواعد العامة، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم بين الخصمين فيها بقوله: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك}: أي لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة، ورحمته لك ببيان حقيقة الواقعة، لهمت طائفة من الذين يختانون أنفسهم بالمعصية أو بمساعدة الخائن أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، أي يضلوك بقول الزور وتزكية المجرم وبهت اليهودي البريء، لعلمهم أن الحكم إنما يكون بالظواهر، أو بمحاولة الميل إلى إدانة اليهودي توهما منهم أن الإسلام يبيح ترجيح المسلم على غيره ونصره ظالما أو مظلوما كما يعهدون في غيره من الملل. ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق، وإقامة أركان العدل، والمساواة فيه بين جميع الخلق.
وقيل إن الآية نزلت في وفد ثقيف إذ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا جئنا لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا، فردهم {وما يضلون إلا أنفسهم} بانحرافهم عن الصراط المستقيم الذي هداهم إليه الإسلام واتباع الهوى والتعاون عليه {وما يضرونك من شيء} وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم. وهذه الآية ناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يجادل عنهم ولا أطمعهم في التحيز لهم قبل نزول الوحي ولا بعده بالأولى.
هذا ما ظهر لي الآن. وقد رجعت بعد كتابته إلى مذكراتي التي كتبتها في درس الأستاذ الإمام فإذا فيها ما نصه:
كان الكلام في المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحق، وقد أراد تعالى بعد بيان تلك الأوامر والنواهي وتوجيهها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين فضله ونعمته عليه.
ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة لأنه على ما روي قد همّ هو وأصحابه بإضلال النبي عن الحق الذي أنزله الله عليه، وهو تعالى يقول إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهمّ بذلك. وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس على شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلابد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع، ولذلك تفضل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بالهم بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه. اه.
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم} الكتاب: القرآن، والحكمة: فقه مقاصد الكتاب وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على سنن الاجتماع البشري واتحادها مع مصالح الناس في كل زمان ومكان. {وعلمك ما لم تكن تعلم} هو في معنى قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى:52] ولا دليل فيه على أن المراد به تعليمه الغيب مطلقا بل هو الكتاب والشريعة، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.
{وكان فضل الله عليك عظيما} إذ اختصك بهذه النعم الكثيرة وأرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له، ويجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا بهذا الفضل خير أمة أخرجت للناس، وقدوة لهم في جميع الخيرات.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
الضلال نوعان: ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق. وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [كما حفظه عن الضلال في الأعمال]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب. ولكن الله -سبحانه- كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة. وكان الكائدون المتآمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة.. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم. والله -سبحانه- يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا. بفضل من الله ورحمة. وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة.. تجيء المنة الكبرى.. منة الرسالة؛ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيمًا. وهي منة الله على "الإنسان "في هذه الأرض. المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا. ونشأ بها "الإنسان" كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى.. المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة. عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب.. المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية -جاهلية الغابر والحاضر- وذاق الإسلام وذاق الجاهلية.. وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فلأنه هو أول من عرفها وذاقها. وأكبر من عرفها وذاقها. وأعرف من عرفها وذاقها.. وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيمًا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل. ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده... وجملة: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} عطف على {وما يضرونك من شيء}. وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله: {ولولا فضل الله عليك ورحمته} ولذلك ختمها بقوله: {وكان فضل الله عليك عظيماً}، فهو مثل ردّ العجز على الصدر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الضمير في قوله تعالى: {لهمت طائفة منهم} يعود على ما يفهم ضمنا من حال هؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخطايا، حتى أصبحوا يقدمون عليها من غير قصد خاص إليها، كأن ذلك حال من أحوالهم، فهم منافقون يبتغون الفتنة في الذين آمنوا، وأول فتنة وأقوى فتنة هي التي تجيء في الحكام، فتبعد ما بينهم وبين الأخيار من الأمة، ويتقرب بها الأشرار الذين يرتكبون الشر، ويرمون به الأبرياء،... وأنزل عليه الحكمة وهي الفهم الصحيح، وفقه الواقع والمسائل...
علينا أن نفهم أن "الهم "نوعان: هم إنفاذ، وهم تزيين. وقد رفض رسول الله هم الإنفاذ ودفعه الله عنه لأنه سبحانه وتعالى يحوط رسوله بفضله ورحمته ويأتي بالأحداث ليعلمه حكما جديدا، وفضل الله على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم تزيين فقط وحفظ الله رسوله منه أيضا وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد صار يقضي به من بعد ذلك في كل قضايا الناس فإذا ما جاء حدث من الأحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالفضل لله لأنه يزيد رسوله تعليما {وعلمك ما لم تكن تعلم} (من الآية113سورة النساء)...
"وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"... أنت لن تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من هم التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلما، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيما حقا...