( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون ) . .
إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . ( إلا الذين ظلموا منهم )فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .
وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، و إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون . .
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .
قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف .
وقال آخرون : بل هي باقية أو محكمة لِمَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين ، فيجادل بالتي هي أحسن ، ليكون أنجع فيه ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ النحل : 125 ] ، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] . وهذا القول اختاره ابن جرير{[22620]} ، وحكاه عن ابن زيد .
وقوله : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : حادوا عن وجه الحق{[22621]} ، وعَمُوا عن واضح المحجة ، وعاندوا وكابروا ، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم ، قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] .
قال جابر : أمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف .
قال مجاهد : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني : أهل الحرب ، وَمَنِ امتنع منهم عن أداء الجزية .
وقوله : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ } ، يعني : إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ، ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا .
وقال البخاري ، رحمه الله : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة{[22622]} ، رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب{[22623]} يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون " . وهذا الحديث تفرَّد{[22624]} به البخاري{[22625]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني ابن أبي نملة{[22626]} أن أبا نَمْلَةَ الأنصاري أخبره ، أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد ، هل تتكلم هذه الجنازة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أعلم " . قال اليهودي : أنا أشهد أنها تتكلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ورسله وكتبه ، فإن كان حقًّا لم{[22627]} تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم{[22628]} تصدقوهم " {[22629]} قلت : وأبو نَمْلَةَ هذا هو : عُمَارة . وقيل : عمار . وقيل : عمرو بن معاذ بن زُرَارة الأنصاري ، رضي الله عنه .
ثم ليعلم أن أكثر ما يُحدّثون به غالبُه كذب وبهتان ؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل ، وما أقل الصدق فيه ، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن عامر ، عن عمارة بن عمير ، عن حُرَيْث{[22630]} بن ظهير ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية ، تدعوه إلى دينه كتالية المال{[22631]} .
وقال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل{[22632]} حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله{[22633]} ، عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم أحدث{[22634]} تقرؤونه محضا لم يُشَب ، وقد حدَثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله ، وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو{[22635]} من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا ؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن{[22636]} مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم{[22637]} .
وقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن : أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة - وذكرَ كعبَ الأحبار - فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب{[22638]} .
قلت : معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد ؛ لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة ؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ، ومع ذلك وقرب العهد وضعت{[22639]} أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك ، كل بحسبه ، ولله الحمد والمنة .
قرأ الجمهور «إلا » على الاستثناء ، وقرأ ابن عباس «ألا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية ، فقال ابن زيد : معناها «لا تجادلوا » من آمن بمحمد من { أهل الكتاب }{[9260]} فكأنه قال { أهل الكتاب } المؤمنين { إلا بالتي هي أحسن } أي الموافقة فيا حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك ، وقوله تعالى على هذا التأويل { إلا الذين ظلموا } يريد به من بقي على كفره منهم ، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم ، والآية على هذا محكمة غير منسوخة ، وقال مجاهد : المراد ب { أهل الكتاب } اليهود والنصارى الباقون على دينهم أمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم { إلا بالتي هي أحسن } من الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته ، وأن يزال معهم عن طريق الإغلاظ والمخاشنة ، وقوله على هذا التأويل { إلا الذين ظلموا } معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم يؤد جزية الحرب ، ومن قال وصرح بأن لله ولداً أو له شريك أو يده مغلولة ، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قال قتادة هي منسوخة بقول الله تعالى { قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله }{[9261]} [ التوبة : 29 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية ، وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك ، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب ، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة ، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل ، وإما بقول ، وإما بإذاية محمد صلى الله عليه وسلم ، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا ، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن التي هي أحسن ، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال والجزية وهذا قول قتادة وقوله تعالى : { وقولوا آمنا } الآية ، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }{[9262]} » وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل »{[9263]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلا تُجادِلُوا" أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى، وهم أهْلَ الكِتابِ "إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ "يقول: إلاّ بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُججه.
وقوله: "إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: إلاّ الذين أبوا أن يقرّوا لكم بإعطاء الجزية، ونصبوا دون ذلك لكم حربا، فإنهم ظلمة، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية...
وقال آخرون: معنى ذلك: "وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ" الذين قد آمنوا به، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ، إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. فأقاموا على كفرهم، وقالوا: هذه الآية مُحْكَمة، وليست بمنسوخة...
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقتال، وقالوا: هي منسوخة نسخها قوله: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الآخِرِ"...
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: عنى بقوله إلاّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُمْ: إلاّ الذين امتنعوا من أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب.
فإن قال قائل: أو غير ظالم من أهل الكتاب، إلاّ من لم يؤدّ الجزية؟ قيل: إن جميعهم وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ظَلَمة، فإنه لم يعن بقوله "إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" ظُلْمَ أنفسهم. وإنما عنى به: إلاّ الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أولئك جادلوهم بالقتال.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أذِن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب بغير الذي هو أحسن، بقوله "إلاّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُمْ" فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلاّ بالتي هي أحسن، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم، وأنهم غير المؤمن، لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلاّ في غير الحقّ، لأنه إذا جاء بغير الحقّ، فقد صار في معنى الظلمة في الذي خالف فيه الحقّ. فإذ كان ذلك كذلك، تبين أن لا معنى لقول من قال: عنى بقوله "وَلا تُجادِلُوا أهلَ الكِتابِ" أهل الإيمان منهم، وكذلك لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل.
وقد بيّنا في غير موضع من كتابنا، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
وقوله: "وَقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ، وَإلَهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ، ونَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن: إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين، وأن يكونوا فيه كاذبين، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك فقولوا لهم "آمّنّا بِالّذِي أُنْزِلَ إلَينا وأنْزِلَ إلَيْكُمْ مما في التوراة والإنجيل وَإلَهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ" يقول: ومعبودنا ومعبودكم واحد "ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" يقول: ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا...
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا عليّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُصَدّقُوا أهْلَ الكِتابِ وَلا تُكَذّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ، وَإلهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ، ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»...
عن عبد الله، قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلاّ وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا} ولا تجادلوهم لا بالتي هي أحسن ولا بغيرها، وهم الذين لا يقبلون الحجة، ولا يؤمنون إذا لزمتهم الحجة، وهم أهل عناد ومكابرة..
والثاني: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} فقوله: {إلا الذين ظلموا منهم} ليس على الثُّنيا من الأول، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: إلا الذين ظلموا منهم قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا إلى آخر ما ذكر، أي قولوا لهم هذا، ولا تجادلوهم؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون، قوله {إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم} ليس على الثُّنيا من الأول، ولكن على ابتداء نهي، أي لا تخشوهم واخشوني، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله.
والثالث: جائز أن يكون قوله: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} إلى آخر ما ذكر، هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها لأن ذلك مما يقبله العقل والطبع، وبها جاءت الكتب والرسل، فلا سبيل إلى رد ذلك.
وقال بعضهم: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} أي جادلوا الذين يصدقون منهم، ولا يكتمون بعث محمد وما في كتبهم من الحق. فأما الذين تعلمون أنهم يكتمون، ولا يصدّقون، فلا تجادلوهم، والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب، ويوجبها العقل. ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدين. ليس كما يقول بعض الناس: أي لا تجوز المناظرة معهم، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ} الجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه، وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه، وقيل: الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال قتادة: الآية الأولى منسوخة بالجهاد والقتال. وقال غيره: هي ثابتة، وهو الأولى، لأنه لا دليل على ما قاله... فالآية خطاب من الله تعالى لنبيه وجميع المؤمنين ينهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب: من اليهود والنصارى "إلا بالتي هي أحسن".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ينبغي أن يكون منك للخصم تبيين، وفي خطابك تليين، وفي قبول الحق إنصاف، واعتقاد النصرة -لما رآه صحيحاً- بالحجة، وتَرْك الميل إلى الشيء بالهوى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية، وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل، وإما بقول، وإما بإذاية محمد صلى الله عليه وسلم، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا،...
... فيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه، ولهذا قال تعالى في حقهم {صم بكم عمى} وقال: {لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} إلى غير ذلك. وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب للضلال آباؤهم، بخلاف المشرك، ثم على هذا فقوله: {إلا الذين ظلموا} تبيين له حسن آخر، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون، لأن الشرك ظلم عظيم، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله: {وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
... دليل على أنهم على الباطل، فإنهم لو كانوا على الحق ما احتجنا للجدال معهم.. "إلا الذين ظلموا منهم ": المراد من طغى، ولم يقصد الاسترشاد من كل طائفة ولا يختص ذلك باليهود، فإنا نعدل معه عن الدليل والبرهان إلى السيف القاطع والبنان"...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن،.. {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم، وعلى أن الإله واحد، ولا تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب الإلهية، أو بأحد من الرسل، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم، يقدح بجميع ما معهم، من حق وباطل، فهذا ظلم، وخروج عن الواجب وآداب النظر، فإن الواجب، أن يرد ما مع الخصم من الباطل، ويقبل ما معه من الحق، ولا يرد الحق لأجل قوله، ولو كان كافرا. وأيضا، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب، على هذا الطريق، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن، وبالرسول الذي جاء به، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب، وتقررت عند المتناظرين، وثبتت حقائقها عندهما، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها، والرسل كلهم، وهذا من خصائص الإسلام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت. وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين. ومحور السورة -كما أسلفنا- هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء.. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين؛ وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام. وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها. وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون. وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله. ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن -إلا الذين ظلموا منهم فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم- وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها، فهي حق من عند الله مصدق لما معهم. ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله. ولم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه! ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم. ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة؛ يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده. يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير. وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله -سبحانه- بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين.. ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به. ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق. وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة. ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين. وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين.
إن دعوة الله التي حملها نوح -عليه السلام- والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [صلى الله عليه وسلم] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمة واحدة، تعبد إلها واحدا. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون. هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن. أو تبادل أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان. ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر..
(إلا الذين ظلموا منهم) فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة. وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله. وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات. وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، و إلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون.. وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع، والجدل والنقاش. وكلهم يؤمنون بإله واحد، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم، وهو في صميمه واحد، والمنهج الإلهي متصل الحلقات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} [العنكبوت: 45] الآية، باعتبار ما تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعْقِلُها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] كما تقدم آنفاً. وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن مجادلة أهل الكتاب لا تَعرِض للنبيء صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخِر هذه السورة على وشْك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلةً للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت، وقوله {وما يعقِلُها إلى العالمون} هَيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب. فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب} [العنكبوت: 47] الآيات.
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة.
والمجادلة: مفاعلة من الجَدل، وهو إقامة الدليل على رأي اختلَف فيه صاحبه مع غيره، وقد تقدم في قوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يَخْتانون أنفسهم} في سورة النساء (107). وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها. والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال.
و {أهل الكتاب}: اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن. والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولَها. ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران.
و {بالتي هي أحسن} مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى، تقديره: لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن.
و {أحسن} اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة. ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن، أي إلا بالمجادلة الحُسنى كقوله تعالى {وجادِلْهم بالتي هي أحسن} في آخر سورة النحل (125). فالله جعل الخيار للنبيء في مجادلة المشركين بين أن يُجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله: {يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم} [التوبة: 73]، فإن الإغلاظ شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلاّ إغلاظاً غير الجهاد.
ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذراً من تنفيرهم، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصَلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعيَّن أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعاً لهم.
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله: {إلا الذين ظلموا منهم}.
{الذين ظلموا منهم} هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسداً وبغضاً على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبيء صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء.
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون: إن محمداً رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أشهد أنك رسول الأميين "فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سَلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام.
وعطف {وقولوا ءامنا} إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة {بالتي هي أحسن}. وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتجّ على ما عدا ذلك، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيّز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عمّا يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله: {يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بَعْده} إلى قوله: {وما كان مِنَ المُشْركين} آل عمران: (65 67). ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيّز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما شملته المجادلة لكان ذلك مقتضياً فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال.
{بالذي أُنْزِلَ إلَيْنا} القرآن. والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتاباً على غير أنبيائهم، ولذلك عقب بقوله: {وأنزل إليكم}. وقوله: {وأنزل إليكم} عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: والذي أنزل إليكم، أي الكتاب وهو « التوراة» بقرينة قوله {إليكم}. والمعنى: إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى: {قُلْ يأهل الكِتَاب هل تَنْقِمون مِنَّا إلاّ أنْ ءامنّا بالله وما أُنْزِل إليْنَا ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْل} [المائدة: 59]، وكذلك قوله: {وإلهَنا وإلهكُم واحِد} تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد. فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان.
وقوله: {ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} مراد به كلاَ الفريقين، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين. فيشمل المسلمين وأهلَ الكتاب فيكون المراد بوصف {مسلمون} أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله، أي عدم الإشراك به، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره. وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لَهُ مُسْلِمُون} لإفادة الاختصاص تعريضاً بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} والآيات التي بعدها. ولم نطلع على رواية ما تذكر سببا لنزول هذا الفصل الذي قد يبدو فصلا جديدا لا صلة له بالآيات السابقة، ومع ذلك فإن المتبادر من آياته أنها نزلت في مناسبة موقف من مواقف الجدل في موضوع القرآن ووحيه الإلهي اشترك فيه فريق من أهل الكتاب وفريق من المؤمنين مع النبي، وربما فريق من الكفار أيضا. ولعل هذا الجدل نشب على أثر الفصل القصصي والآيات المعقبة عليه. فوضعت آيات الفصل بعدها. وإذا صح الاحتمال الأخير فيكون شيء من الصلة بين هذا الفصل وما سبقه. والآية [48] بخاصة تلهم أنه كان من نقاط الجدل القائم مما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الكتب السماوية المتداولة بين أيدي أهل الكتاب، وأن المجادلين كانوا يتخذون ذلك وسيلة إلى الطعن بالقرآن ولدعوى اقتباس النبي من هذه الكتب. فردت الآية بعدها على هذه النقطة ردا قويا على النحو الذي شرحناه.
والنفي المذكور في الآية [48] يحتمل أن يكون أريد به نفي تلاوة النبي كتابا ما من الكتب السماوية أو الاطلاع عليه قبل القرآن أو كتابته أو نفي القراءة والكتابة بالمرة عنه تدعيما لحجة كونه لم يقرأ الكتب السماوية ولم يكتبها؛ لأنه لم يكن يحسن ذلك، وبالتالي دحضا لدعوى اقتباسه من الكتب السماوية. والإطلاق في النفي و تنكير المنفي مما يمكن أن يكون قرينة على أن المراد هو الاحتمال الثاني.
وإطلاق النفي في الآية وأسلوبها ينطويان على التحدي والتنديد والتذكير. فكأنما أريد أن يقال: إن المجادلين المدعين يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ويكتب، وبالتالي لم يتسن له قراءة الكتب السماوية وكتابتها. وإذا لحظنا أن هذا النفي يتلى علنا ويسمعه الناس من كتابيين وغير كتابيين أدركنا ما فيه من قوة الرد على دعوى المدعين وتحديها وتزييفها. ويتبادر لنا أن النفي منصب على القراءة والكتابة الشخصيتين. وهذا لا ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع من بعض الكتابيين شيئا من أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانوا يتداولونها وينسبونها إلى أنبيائهم، مما ذكرت شيئا منه بعض الروايات وذكرناه في سياق تفسير سورتي النحل والفرقان. ولقد قلنا: إن الآية [47] تلهم أن من نقاط الجدل القائم ما كان يرى من تشابه وتماثل بين محتويات القرآن ومحتويات الأسفار المذكورة آنفا. ولسنا نرى في هذا إشكالا مؤيدا لدعوى المدعين. فكل ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن المحكمة والمتشابهة من وحي الله الذي كان ينزل على قلبه اقتضته حكمة التنزيل ولو كان فيه تطابق مع الأسفار وقد سيق في القرآن للعبرة والموعظة لا للتاريخ. وأسلوب الآيات قوي رصين، يلهم أن النبي عليه السلام كان في موقف المستعلي المنتصر فيما يبديه من حجج ويبدو منه من قوة و إفحام وإلزام للمكابرين المعاندين من العرب والكتابيين معا. ومع أنه لا خلاف في مكية الآيات، فإن بعض المفسرين ذكروا في سياق تفسيرها عزوا إلى أهل التأويل أو تأويلا من عندهم أنها في صدد الحجاج مع يهود المدينة، وذكروا اسم عبد الله بن سلام وغيره من مسلمي اليهود وقالوا إنهم الذين عنتهم الآية [47] بتعبير {ومن هؤلاء من يؤمن به} كما ذكروا أن الذين عنتهم جملة {إلا الذين ظلموا منهم} هم الذين نبذوا الذمة ومنعوا الجزية عامة، وكعب بن الأشرف وزملاءه من اليهود خاصة. وهذا نموذج لكثير من الأقوال التي خلط فيها بين مدى ومدلول ومناسبة الآيات المكية والمدنية وظروف العهد المكي والمدني...
على أن هذا لا يمنع القول أن الاستثناء هو لا لأمر واقع، وإنما لأمر قد يكون رسمت الخطة له إذا وقع. وقد يكون من الدلائل على ذلك أنه ليس هناك رواية ما تذكر أن كتابيين على دينهم في مكة حينما فتحها الله على رسوله في السنة الهجرية الثامنة. والسورة من آخر ما نزل في مكة فلو كان بقي كتابيون لم ينضموا إلى الإسلام في مكة وكانوا يجادلون النبي ويغلطون في الجدال لكانت الروايات ذكرت ما صار عليه شأنهم حين فتح مكة. وليس مما يعقل أن يكونوا كلهم قد تواروا بالموت أثناء هذه المدة. ولقد علم الله أن يهود يثرب التي أزمع النبي الهجرة إليها في ظروف نزول هذه الآيات سيقفون منه موقف المجادل الظالم فرسمت له الخطة معهم في هذه الآية والله تعالى أعلم.. والاستثناء الذي احتوته الآية وفحوى الآيات عامة يدلان على أن فريقا من أهل الكتاب كان معاندا مكابرا في موقف الجدل والحجاج إلى جانب فريق آخر كان مؤمنا مصدقا. وفي هذا صورة من صور العهد المكي؛ حيث كان من العرب مؤمنون وكافرون وكان إلى جانبهم من الكتابيين مؤمنون وكافرون أيضا ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لقد سبق في علم الله أن دين الحق الذي هو دين الإسلام، رغما عن ظهوره وانتشاره في أطراف الأرض، وإقبال مختلف السلالات على الدخول فيه أفواجا، سوف لا ينفرد وحده بالبقاء في العالم، مصداقا لقوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة}، بل إنه ستعايشه باستمرار أديان أخرى، وستحاول أن تنافسه وتتحداه، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولا سيما "الأديان الكتابية "التي ينتمي إليها اليهود والنصارى. ومعايشة الإسلام لغيره من الأديان، تفرض على أهله أن يدافعوا عنه في وجه الهجمات المضادة بالحجة والبرهان، وحتى يتم القيام بهذه المهمة على أحسن وجه، وجه كتاب الله في بداية هذا الربع الخطاب لكافة المؤمنين، ولا سيما المسلحين منهم بسلاح العلم والدين، فقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وبذلك أفهم المسلمين أولا أن الإسلام لا يخشى من مواجهة خصومه، وأنه لا بد للمسلمين من أن يجادلوا عن دينهم، ويبطلوا ما يوجه إليه من الشبه الزائفة والتهم الباطلة، وأفهمهم ثانيا أن مجادلة المسلمين لمخالفيهم في العقيدة والدين لا تكون بأي شكل كان، بل لا بد أن تكون على شكل يؤدي بالخصم إلى الاقتناع والإذعان، وهذا المعنى هو ما عبرت عنه الآية الكريمة إذ قالت: {إلا بالتي هي أحسن}. و {التي هي أحسن} وصف للطريقة التي يجب أن يتبعها المجادل عن دينه في الدفاع عنه، حيث يختار لجداله طريقة مطبوعة بطابع الرفق واللين، لا تشم منها رائحة الغلظة والجفاء.
و {التي هي أحسن} هي كذلك وصف للحجة التي ينبغي أن يحتج بها المجادل عن دينه للدفاع عنه، بحيث يختار من بين الحجج التي بين يديه أوضحها وأقواها، وأسرعها إيصالا للمقصود والمطلوب...
{وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} يتضمن مثالا تطبيقيا لمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، قال ابن كثير: {فإذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه لا نقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا، ولا نقدم على تصديقه لأنه قد يكون باطلا، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا، شريطة أن يكون أمرا منزلا، لا مبدلا ولا مؤولا، وتفرد البخاري في صحيحه برواية حديث عن أبي هريرة قال: "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم الآية".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
منهجية الجدل في الإسلام للفكر في الإسلام قيمته، وللعقل احترامه في مجالات العقيدة والحياة، وللآخرين حقّهم في أن يسمعوا وجهة نظر الرأي المخالف، كما أن من حقنا أن نسمع منهم وجهة نظرهم، ليكون الحوار العقلاني الهادئ القائم على النظرة الموضوعية للمضمون الفكري الذي تمثله العقيدة، في ما يسمعه أو يتحدث به، وقد أراد الله للمسلمين أن يكون سبيلهم في صراعهم العقيدي مع أهل الكتاب، سبيل الحوار الذي يبحث في البداية عن مواطن اللقاء معهم، ليبدأوا بعد ذلك الحديث في الخلافات، من هذا الموقع، بروحية الوحدة، والرغبة في اللقاء على أرضٍ مشتركة في نهاية المطاف. المجادلة بالتي هي أحسن {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالكلمة الحلوة الهادئة المعبّرة الواضحة، والأسلوب الحكيم الذي يرصد المشاعر والأحاسيس ليحترمها، ويدرس الذهنية لدى الطرف الآخر للحوار ليتعامل معها من خلال نقاط الضعف والقوّة، والجوّ الملائم الذي يدرس الظروف المحيطة بالمسألة، ليحشد فيه كل ما يمكن أن يثير التفكير، ويُبعد الانفعال، ويقرّب من الاقتناع الهادئ العميق، لتكون المسألة مسألة فكرٍ يصارع فكراً في أجواء الرغبة في الوصول إلى الحقيقة التي تسمح بالتراجع عن الخطأ، وتقود للانفتاح على الصواب، بعيداً عن مسألة تأكيد الذات، كما هو الحال عند مجتمعات التخلف التي تفهم الخلاف في الرأي، قضية ذاتٍ تصارع ذاتاً، مما يجعل الانفعال هو طابع الحوار. فهذا هو الأسلوب الأحسن الذي يقود الآخرين إلى احترام فكر الإسلام، ويقرّبهم من أجواء الوصول إلى النتائج الإيجابية السليمة، ويحوّل الأعداء إلى أصدقاء، أمَّا الأسلوب الذي هو الأسوأ، فإن الإسلام يرفضه مع كل الناس، لأنه يعقّد الأمور بدلاً من أن يحلّ مشاكلها، وذلك مثل السباب والاتهامات الظالمة، والافتراءات الباطلة، والكلمات الخشنة، والأساليب المتشنجة، والأجواء الانفعالية، والتأكيد على مواطن الخلاف بدلاً من مواطن اللقاء، وغير ذلك، ما يثير التعقيد والتشنج والارتباك على أكثر من صعيد، ويحوّل الساحة إلى ساحة قتال بدلاً من ساحة سلام. ولكن الحوار الهادئ، والجدال بالتي هي أحسن، هو للذين يريدون الحوار ويتفهمونه دون الذين يريدون أن يفرضوا إرادتهم على الناس بالقوّة ويمنعوهم من التحرك بحرّيةٍ في إبداء وجهة نظرهم في مجالات الفكر. فهؤلاء لا بد من التعامل معهم بطريقتهم إذا لم يرجعوا إلى الأسلوب الفكري الذي يريد أن يصل إلى نتيجة فكرية من خلال الحوار، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}، فقد يكون من الأفضل استعمال أسلوب المواجهة معهم، بالقوّة التي تواجه قوّةً، وبالعنف الذي يضغط على العنف. البحث عن النقاط المشتركة في الحوار فإذا عادوا إلى الحوار، خاطبناهم بالطريقة التي هي أحسن التي تبحث عن الأرض العقيدية المشتركة بيننا وبينهم، كما قال الله سبحانه: {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} فنحن نؤمن بالتوراة والإنجيل كما نؤمن بالقرآن، على أنها الكتب المنزلة من الله، في ما تمثله من الحقيقة في وحي الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(التي هي أحسن) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له. فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلا، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوز لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.
(إلاّ الذين ظلموا منهم) وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله)،الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم، الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا: إن المسيح ابن الله، أو العزير ابن الله، وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي (صلى الله عليه وآله) وعلى الإسلام.