في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ} (87)

84

ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد ، وسوء الاستغلال :

( قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .

وهو رد واضح التهكم ، بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه . وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ، والمعاند بلا معرفة ولا فقه .

( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ ) . .

فهم لا يدركون - أو لا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل . فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة .

وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة . وارتباطهما معا بالمعاملات . . قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب . وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى ! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها - بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر . والشريعة والتعامل . فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق أمر غيره . . وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . .

وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم - وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف - فلقد قامت أزمة في " الكنيست " مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - أطعمة غير شرعية . وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده - مهما تعرضت للخسارة - فأين من يدعون أنفسهم " مسلمين ! " من هذا الاستمساك بالدين ؟ ! !

إن بيننا اليوم - ممن يقولون : إنهم مسلمون ! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .

وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم . يتساءلون أولا في استنكار : وما للإسلام وسلوكنا الشخصي ؟ ما للإسلام والعري في الشواطيء ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق ؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج ؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله " المتحضرون " ؟ ! . . فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين : ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ؟ ) . .

وهم يتساءلون ثانيا . بل ينكرون بشدة وعنف . أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد . . فما للدين والمعاملات الربوية ؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده . وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية - النظرية الأخلاقية مثلا - ويعدونها تخليطا من أيام زمان !

فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى . ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله ، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق . . تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود ! ! !

وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض . فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد . والشرك ألوان . منه هذا اللون الذي نعيش به الآن . وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان !

ويسخر أهل مدين من شعيب - كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق - فيقولون :

( إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .

وهم يعنون عكس معناها . فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق ! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين ! ! !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ} (87)

فجاءوا{[14865]} يهرعون إليه . يقولون له على سبيل التهكم ، قَبَّحهم الله : { أَصَلاتُكَ } {[14866]} ، قال الأعمش : أي : قرآنك{[14867]} { تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : الأوثان والأصنام ، { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } فنترك التطفيف{[14868]} على قولك ، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد .

[ قال الحسن ]{[14869]} في قوله : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }{[14870]} إيْ والله ، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم .

وقال الثوري في قوله : { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يعنون الزكاة .

وقولهم : { إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } قال ابن عباس ، وميمون بن مِهْرَان ، وابن جُرَيْج ، وابن أسلم ، وابن جرير : يقولون ذلك - أعداء الله - على سبيل الاستهزاء ، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته ، وقد فَعَلْ .


[14865]:- في ت ، أ : "فجاءه قومه".
[14866]:- في ت : "أصلواتك".
[14867]:- في أ : "قراءتك".
[14868]:- في أ : "الطفيف".
[14869]:- زيادة من ت ، أ.
[14870]:- في ت : "أصلواتك".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ} (87)

قرأ جمهور الناس «أصلواتك » بالجمع ، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك » بالإفراد ، وكذلك قرأ في براءة { إن صلاتك }{[6469]} وفي المؤمنين : { على صلاتهم }{[6470]} كل ذلك بالإفراد .

واختلف في معنى «الصلاة » هنا ، فقالت فرقة : أرادوا الصلوات المعروفة ، وروي أن شعيباً عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً إلا فرض عليه الصلاة والزكاة . وقيل : أرادوا قراءتك . وقيل : أرادوا : أمساجدك ؟ وقيل : أرادوا : أدعواتك .

قال القاضي أبو محمد : وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز ، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع : فمعنى هذا : ألما كنت مصلياً تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا ؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل : أمرته ، كما قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }{[6471]} .

وقوله : { أن نترك ما يعبد آباؤنا } نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس : «نفعل » و «نشاء » بنون الجماعة فيهما ؛ وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل » و «تشاء » بتاء المخاطبة فيهما : ورويت عن أبي عبد الرحمن : «نفعل » بالنون . «ما تشاء » بالتاء ، ورويت عن ابن عباس . فأما من قرأ بالنون فيهما ف { أن } الثانية عطف على { ما } لا على { أن } الأولى ، لأن المعنى يصير : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ وهذا قلب ما قصدوه . وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف { أن } الثانية على { ما } لا على { أن } الأولى ، قال بعض النحويين ، ويصح عطفها على { ما } ويتم المعنى في الوجهين .

قال القاضي أبو محمد : ويجيء { نترك } في الأول بمعنى نرفض ، وفي الثاني بمعنى نقرر ، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف ، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع ، وأما من قرأ بالنون في «نفعل » والتاء في «تشاء » ف { أن } معطوفة على الأولى ، ولا يجوز أن تنعطف على { ما } لأن المعنى - أيضاً - ينقلب ، فتدبره .

وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره ، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، قاله بن كعب وغيره ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض ، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم ، وتؤول أيضاً بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس .

واختلف في قولهم : { إنك لأنت الحليم الرشيد } فقيل : إنما كانت ألفاظهم : إنك لأنت الجاهل السفيه ، فكنى الله عن ذلك وقيل : بل هذا لفظهم بعينه ، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء - قاله ابن جريج وابن زيد - وقيل المعنى : إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك . وقيل : بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه ، فكأنهم فندوه{[6472]} ، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر ، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة ، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا إخوة القردة » ، يا م

حمد ما علمناك جهولاً{[6473]} .

قال القاضي أبو محمد : والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه ، وبين ما بادر به محمد عليه السلام بني قريظة .


[6469]:- من قوله تعالى في الآية (103) من (براءة): {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}.
[6470]:- من قوله تعالى في الآية (9) من سورة (المؤمنون): {والذين هم على صلواتهم يحافظون}.
[6471]:- من الآية (45) من سورة (العنكبوت)
[6472]:- يقال: فنّد فلانا وأفنده: خطأ رأيه، وفي التنزيل العزيز حكاية عن يعقوب: {لولا أن تفندون}، ويقال: فنّد رأيه: أضعفه وأبطله.
[6473]:- لم نعثر على الحديث بهذا اللفظ، ولكن الذي رواه الإمام أحمد ينسب الكلام لعائشة رضي الله عنها، ولفظه عن أنس بن مالك أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السّام عليكم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السّام عليكم، فقالت عائشة: السّام عليكم يا إخوان القردة والخنازير ولعنة الله وغضبه، فقال: يا عائشة مه، فقالت: يا رسول الله أما سمعت ما قالوا؟ فقالت: أو ما سمعت ما رددت عليهم؟ يا عائشة لم يدخل الرفق في شيء إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه.