ثم لنعد سريعا إلى يوسف في الجب ، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة :
( وجاءت سيارة ، فأرسلوا واردهم ، فأدلى دلوه قال : يا بشرى . هذا غلام . وأسروه بضاعة ، والله عليم بما يعملون . وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين )
لقد كان الجب على طريق القوافل ، التي تبحث عن الماء في مظانه ، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة ، ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك :
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة . . .
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرا بمواقعه . .
لينظر الماء أو ليملأ الدلو - ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقاريء والسامع - :
( قال : يا بشرى ! هذا غلام ! ) . .
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل ، وحال يوسف ، وكيف ابتهج للنجاة ، ليتحدث عن مصيره مع القافلة :
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا . ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار .
يقول تعالى مخبرًا عما جرى ليوسف ، عليه السلام ، حين ألقاه إخوته ، وتركوه في ذلك الجب فريدا وحيدًا ، فمكث في البئر ثلاثة أيام ، فيما قاله أبو بكر بن عياش{[15092]} وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ، ينظرون ما يصنع وما يُصنع به ، فساق الله له سَيَّارة ، فنزلوا قريبًا من تلك{[15093]} البئر ، وأرسلوا واردهم - وهو الذي يتطلب لهم الماء - فلما جاء تلك{[15094]} البئر ، وأدلى دلوه فيها ، تشبث يوسف ، عليه السلام ، فيها ، فأخرجه واستبشر به ، وقال : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ }
وقرأ بعض القراء : " يا بشرى " ، زعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه ، معلما له أنه أصاب غلامًا . وهذا القول من السدي غريب ؛ لأنه لم يُسبَق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس ، والله أعلم . وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ، ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه ، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها ، كما تقول العرب : " يا نفسُ اصبري " ، و " يا غلام أقبل " ، بحذف حرف الإضافة ، ويجوز الكسر حينئذ والرفع ، وهذا منه ، وتفسرها القراءة الأخرى { يَا بُشْرَى " } والله أعلم .
وقوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا : اشتريناه وتبضّعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره . قاله مجاهد ، والسدي ، وابن جرير . هذا قول .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعني : إخوة يوسف ، أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ } يباع ، فباعه إخوته .
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : يعلم ما يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقَدرَ سابق ، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم{[15095]} ، وإعلامه له بأنني عالم بأذى قومك ، وأنا قادر على الإنكار عليهم ، ولكني سأملي لهم ، ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم ، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته .
{ وجاءت سيّارةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه . { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي . { فأدلى دلوهُ } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين " يا بشراي " بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي . وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة و " بشراي " بالسكون على قصد الوقف . { وأسرّوه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة . وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . { بضاعةً } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم .
قيل إن «السيارة » جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب ، { سيارة } : جمع سيار ، كما قالوا بغال وبغالة ، وهذا بعكس تمرة وتمر ، و { سيارة } : بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق . وروي أن هذه «السيارة » كانوا قوماً من أهل مدين ، وقيل : قوم أعراب . و «الوارد » هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة ، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر ، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، ويقال : «أدلى الدلو » : إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء . ودلاه يدلوه : إذا استقاه من البئر . وفي الكلام هنا حذف تقديره : فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال : يا بشرأي ، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ، ويرجح هذا لفظة { غلام } ، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز ؛ وقيل : كان ابن سبع عشرة سنة - وهذا بعيد - .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشرأيَ » بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول : احضري ، فهذا وقتك ، وهذا نحو قوله : { يا حسرة على العباد }{[6604]} وروى ورش عن نافع «يا بشرأيْ » بسكون الياء ، قال أبو علي : وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة{[6605]} ، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها{[6606]} الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها{[6607]} ، كما اختصت في القوافي بالتأسيس ، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة{[6608]} وليس شيء من ذلك في الياء والواو .
وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريَّ » تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة ، وهي لغة فاشية ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ*** فتخرموا ولكل جنب مصرع{[6609]}
وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك :
يطوّف بيَّ كعب في معد*** ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأروا لي في معد*** فما أرويتما أبداً صديا{[6610]} أراد : هواي ، وقفاي ، وصداي{[6611]} .
وقرأ حمزة والكسائي «يا بشرِي » ويميلان ولا يضيفان . وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل ، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي : كان في أصحاب هذا «الوارد » رجل اسمه بشرى ، فناداه وأعلمه بالغلام{[6612]} ، وقيل : هو على نداء البشرى - كما قدمنا - والضمير في قوله : { وأسروه } ظاهر الآيات أنه ل «وارد » الماء ، - قاله مجاهد ، وقال : إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا : وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود .
قال القاضي أبو محمد : هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً ، فأسروا بينهم أن يقولوا : أبضعه معنا بعض أهل المصر .
و { بضاعة } حال ، و «البضاعة » : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح ، مأخوذة من قولهم : بضعت أي قطعت . وقيل : إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً ، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً ، ثم يكون الضمير في قوله : { وشروه } لهم أيضاً ، أي باعوه بثمن قليل ، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره ، بل كانوا زاهدين فيه ، وروي - على هذا - أنهم باعوه من تاجر . وقال مجاهد : الضمير في { أسروه } لأصحاب «الدلو » ، وفي { شروه } لإخوة يوسف الأحد عشر ، وقال ابن عباس : بل الضمير في { أسروه } و { شروه } لإخوة يوسف .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا : هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم ، فقارهم{[6613]} يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم ، ولينفذ الله أمره ؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها ، واتخذوه { بضاعة } أي متجراً لهم ومكسباً { وشروه } أيضاً { بثمن بخس } ، أي باعوه .
وقوله { والله عليم بما يعملون } إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد ، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف ، وسوق الأقدار بناء حاله ، فهو - حينئذ - بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك » .
وفي الآية - أيضاً - تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش ، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة .
عطف على { وجاءوا أباهم عشاء يبكون } [ سورة يوسف : 16 ] عطف قصة على قصة . وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام ، والمعنى : وجاءت الجبّ .
والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم .
والإدلاء : إرسال الدلو في البئر لنزع الماء .
والدلو : ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو . والدلو مؤنثة .
وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّىء السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه قال يا بشراي .
والبشرى : تقدمت في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس ( 64 ) .
ونداء البشرى مجاز ، لأنّ البشرى لا تنادى ، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له : هذا آن حضورك . ومنه : يا حسرتَا ، ويا عجباً ، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية .
والمعنى : أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام .
وقرأ الجمهور { يا بشّرَايَ } بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بدون إضافة .
واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السّلام ؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة ، ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السّلام حين أصعده الوارد من الجب ، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام ، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف عليه السّلام حين ظهر من الجب ، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب ، كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال وكما يقول الغائص : هذه صدقة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر : هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه :
يقول راكبه الجنيّ مرتفقاً *** هذا لكُنّ ولحم الشاة محجور
وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون . قال النابغة :
أو درّة صدفاته غوّاصها *** بهج متى يُرها يهلّ ويسجد
والمعنى : وجدت في البئر غلاماً ، فهو لقطة ، فيكون عبداً لمن التقطه . وذلك سبب ابتهاجه بقوله : { يا بشراي هذا غلام } .
والغلام : مَن سنهُ بين العشر والعشرين . وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة .
وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة ، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم . وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب .
ومعنى { أسَرُّوه } أخْفَوْه . والضمير للسيارة لا محالة ، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب ، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت ، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة ، ولذلك كان قوله : { وأسرّوه } مشعراً بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته ، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه .
وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين .
و { بضاعةً } منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في { أسرّوه } ، أي جعلوه بضاعة . والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها ، أي عزموا على بيعه .
وجملة { والله عليم بما يعملون } معترضة ، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه ، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم ، لأنهم قد علموا خبره ، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره .
وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاءت سيارة}، وهي: العير، وقالوا: رفقة من العرب، فنزلوا على البئر يريدون مصر، {فأرسلوا واردهم}، فبعثوا رجلين... إلى الماء، {فأدلى} أحدهم {دلوه}... فتعلق يوسف بالدلو {قال}... {يا بشرى}، يقول... أبشر، {هذا غلام}
{وأسروه بضعة}، يعني: أخفوه من أصحابهم الذين مروا على الماء في الرفقة، وقالوا: هو بضاعة لأهل الماء نبيعه لهم بمصر؛ لأنهما لو قالا: إنا وجدناه أو اشتريناه، سألوهما الشركة فيه، {والله عليم بما يعملون}، يعني: بما يقولون من الكذب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين، {فأرسلوا واردهم}، وهو الذي يرد المنهل والمنزل، ووروده إياه: مصيره إليه، ودخوله.
{فأدلى دلوه}، يقول: أرسل دلوه في البئر... {فأدلى دلوه}، فتعلق به يُوسف، فخرج، فقال المدلي: {يا بشرى هذا غلام}. واختلفوا في معنى قوله: {يا بشرى هذا غلام}؛
فقال بعضهم: ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا.
وقال آخرون: بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل.
{وأسروه بضاعة}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر، لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأسرّه التجار بعضهم من بعض.
وقال آخرون: معنى ذلك: أسرُّوا بيعَه.
وقال آخرون: إنما عني بقوله: {وأسروه بضاعة}، إخوة يوسف، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم، قالوا: هو عبدٌ لنا. وأولى هذه الأقوال بالصواب: قولُ من قال: وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه، من رفقة السيارة، أمرَ يوسف أنهم اشتروه، خيفةً منهم أن يستشركوهم، وقالوا لهم: هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء؛ وذلك أنه عقيب الخبر عنه، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه، أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل.
{والله عليم بما يعملون}، يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه. وهذا، وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم، فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه، يقول: فاصبر، يا محمد، على ما نالك في الله، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون، كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته، فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف عليهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس كلُّ من طلب شيئاً يُعطى مرادَه فقط بل ربما يُعْطَى فوق مأموله؛ كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسفَ عليه السلام. ويقال ليس كل مَنْ وَجَدَ شيئاً كان كما وجده السيارة؛ توهموا أنهم وجدوا عبداً مملوكاً وكان يوسف -في الحقيقة- حُرَّاً. ويقال لمَّا أراد اللَّهُ تعالى خلاصَ يوسف -عليه السلام- من الجُبِّ أزعج خواطر السِّيارة في قصد السفر، وأعدمهم الماءَ حتى احتاجوا إلى الاستقاء لِيَصِلَ يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل: ألا ربَّ تشويشٍ يقع في العَالَم، والمقصودُ منه سكونُ واحدٍ. كما قيل: رُبَّ ساع له قاعد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم أمرهم هذا وشبوا على أبيهم عليه السلام نار الحزن، التفتت النفس إلى الخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام فيما أشار إليه قوله: {لتنبئنهم} [يوسف: 15] الآية، فقال تعالى مخبراً عن ذلك في أسبابه: {وجاءت سيارة} أي قوم بليغو السير إلى الأرض التي ألقوا يوسف عليه الصلاة والسلام في جبها {فأرسلوا واردهم} أي رسولهم الذي يرسلونه لأجل الإشراف على الماء إلى الجب ليستقي لهم {فأدلى} فيه {دلوه} أي أرسلها في البئر ليملأها -وأما "دلى "فأخرجها ملأى- فاستمسك بها يوسف عليه الصلاة والسلام فأخرجه، فكأنه قيل: ماذا قال حين أدلى للماء فتعلق يوسف بالحبل فأطلعه فإذا هو بإنسان أجمل ما يكون؟ فقيل: {قال} أي الوارد يعلم أصحابه بالبشرى {يا بشرى} أي هذا أوانك فاحضري، فكأنه قيل: لم تدعوا البشرى؟ فقال: {هذا غلام} فأتى به إلى جماعته فسروا به كما سر {وأسروه} أي الوارد وأصحابه {بضاعة} أي حال كونه متاعاً بزعمهم يتجرون فيه {والله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم {بما يعملون} وإن أسروه؛ قال أبو حيان ونعم ما قال: وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً، ولفظة "غلام" ترجح ذلك إذ تطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد تطلق على الرجل الكامل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وجاءت} ذلك المكان الذي كانوا فيه {السيارة} صيغة مبالغة من السير [كجوالة وكشافة] أي جماعة أو قافلة في سفر التكوين أنهم كانوا من الإسماعيليين أي من العرب {فأرسلوا واردهم} المختص بورود الماء للاستقاء لهم {فأدلى دلوه} أي أرسله ودلاه في ذلك الجب فتعلق به يوسف فلما خرج ورآه {قال يا بشرى هذا غلام} يبشر به جماعته السيارة. قرأها الجمهور يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم والكوفيون بدونها وأمال ألفها حمزة والكسائي. ونداء البشرى معناه أن هذا وقتها وموجبها فقد آن لها أن تحضر، ومثله قولهم يا أسفا ويا أسفي، ويا حسرتا ويا حسرتي. إذا وقع ما هو سبب ذلك. فاستبشر به السيارة.
{وأسروه بضاعة} أي أخفوه من الناس لئلا يدعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والبضاعة ما يقطع من المال ويفرز للاتجار به، مشتق من البضع وهو الشق والقطع ومنه البضعة والبضع من العدد وهي من ثلاث إلى تسع والبضعة من اللحم وهي القطعة. وما قيل من أن الذين أسروه هم الوارد الذي استخرجه ومن كان معه دون سائر السيارة أو أن الضمير في أسروه لإخوة يوسف فهو خلاف الظاهر {والله عليم بما يعملون} أي بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف فلكل منهم إرب في يوسف السيارة يدعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به، وإخوة يوسف أمرهم مع أبيهم في إخفائه وتغريبه ودعوى أكل الذئب إياه معلوم وإنه كيد باطل. وحكمة الله تعالى فيه فوق كل ذلك.