ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة ، القوامة على البشرية بالعدل . . العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن ؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال . العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات . . والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور . . ومن ثم فهذا النداء :
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ، شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون ) . .
لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء . وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم . فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل . . وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق . فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض ! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء . فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين !
والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة . فيقدم له بما يعين عليه :
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله . . . )
ويعقب عليه بما يعين عليه أيضًا :
واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون . .
إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط ، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله . حين تقوم لله ، متجردة عن كل ما عداه . وحين تستشعر تقواه ، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور .
وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ، ويثبتها عليه . وما غير القيام لله ، والتعامل معه مباشرة ، والتجرد من كل اعتبار آخر ، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى .
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين ، كما يكفله لهم هذا الدين ؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر ؛ وأن يتعاملوا معه ، متجردين عن كل اعتبار .
وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير ؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعا - معتنقيه وغير معتنقيه - أن يتمتعوا في ظله بالعدل ؛ وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه ، يتعاملون فيها مع ربهم ، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن . .
وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية . مهما يكن فيها من مشقة وجهاد .
ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة ؛ وأدت تكاليفها هذه ؛ يوم استقامت على الإسلام . ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا ، ولكنها كانت واقعا من الواقع في حياتها اليومية ، واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة . . والأمثلة التي وعاهاالتاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة . تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية ، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجا في عالم الواقع يؤدي ببساطة ، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة . . إنها لم تكن مثلا عليا خيالية ، ولا نماذج كذلك فردية . إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقا آخر سواه .
وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها - بما فيها جاهلية العصور الحديثة - ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر ، ومناهج يصنعها الناس للناس . ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة .
إن الناس قد يعرفون المبادى ء ؛ ويهتفون بها . . ولكن هذا شيء ، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر . .
وهذه المبادى ء التي يهتف بها الناس للناس طبيعي ، ألا تتحقق في عالم الواقع . . فليس المهم أن يدعى الناس إلى المبادى ء ؛ ولكن المهم هو من يدعوهم إليها . . المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة . . المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر . . المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادى ء . .
وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادى ء التي تدعو إليها ، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله ، فما يقوله فلان وعلان علام يستند ؟ وأي سلطان له على النفوس والضمائر ؟ وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادى ء ؟
يهتف ألف هاتف بالعدل . وبالتطهر . وبالتحرر . وبالتسامي . وبالسماحة . وبالحب . وبالتضحية . وبالإيثار . . . ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس ؛ ولا يفرض نفسه على القلوب . لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان !
ليس المهم هو الكلام . . ولكن المهم من وراء هذا الكلام !
ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادى ء والمثل والشعارات - مجردة من سلطان الله - ولكن ما أثرها ؟ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم . تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور . فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس . فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان ! ولا يكون لها في كيانهم من هزة ، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر !
ثم إن قيمة هذه " الوصايًا في الدين ، أنها تتكامل مع " الإجراءات " لتكييف الحياة . فهو لا يلقيها مجردة في الهواء . . فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا ؛ وإلى مجرد شعائر ؛ فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق ! كما نرى ذلك الآن في كل مكان . .
إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين ؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه . ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات ! . . وهذا هو " الدين " في المفهوم الإسلامي دون سواه . . الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة .
وحين تحقق " الدين " بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة ؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة ؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء . . وحين تحول " الدين " إلى وصايا على المنابر ؛ وإلى شعائر في المساجد ؛ وتخلى عن نظام الحياة . . لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة !
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ } أي : كونوا قوامين بالحق لله ، عز وجل ، لا لأجل الناس والسمعة ، وكونوا { شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل لا بالجور . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نَحْلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : " أكل ولدك نحلت مثله ؟ " قال : لا . قال : " اتقوا الله ، واعدلوا في{[9396]} أولادكم " . وقال : " إني لا أشهد على جَوْر " . قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة . {[9397]}
وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } أي : لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد ، صديقا كان أو عدوًا ؛ ولهذا قال : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : عَدْلُكم أقرب إلى التقوى من تركه . ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه ، كما في نظائره من القرآن وغيره ، كما في قوله : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ]
وقوله : { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، كما في قوله [ تعالى ]{[9398]} { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [ الفرقان : 24 ] وكقول{[9399]} بعض الصحابيات لعمر : أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[9400]}
ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرا فشر ؛ ولهذا قال بعده : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ }
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } عداه بعلى لتضمنه معنى الحمل ، والمعنى لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل ، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما في قلوبكم . { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل أقرب للتقوى ، صرح لهم بالأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعدما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى ، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين . { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } فيجازيكم به ، وتكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل إن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ، أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ .
لمّا ذكّرهم بالنَعمة عقّب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له ، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم .
فالجملة استئناف نشأ عن ترقّب السامعين بعد تعداد النعم . وقد تقدّم نظير هذه الآية في سورة النساء ، ولكن آية سورة النساء ( 135 ) تقول : { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله } وما هنا بالعكس .
ووجه ذلك أنّ الآية الّتي في سورة النّساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله : { إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك الله } [ النساء : 105 ] ، ثمّ تعرّضت لقضية بني أبيرق في قوله : { ولا تَكُن للخائنين خصيماً } [ النساء : 105 ] ، ثمّ أردفت بأحكام المعاملة بين الرّجال والنّساء ، فكان الأهمّ فيها أمرَ العدل فالشهادةِ . فلذلك قدّم فيها { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } [ النساء : 135 ] ؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء ، ولذلك عدّي إليه بالباء ، إذ قال : { كونوا قوامين بالقسط } [ النساء : 135 ] .
وأمّا الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله ، فكان المقام الأوّل للحصّ على القيام لله ، أي الوفاء له بعهودهم له ، ولذلك عدّي قوله : { قوّامين } باللام . وإذ كان العهد شهادة أتبع قولُه : { قوّامين لله } بقوله : { شهداء بالقسط } ، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها ، وأولَى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى . وقد حصل من مجموع الآيتين : وجوب القيام بالعدل ، والشهادة به ، ووجوب القيام لله ، والشهادة له .
وتقدّم القول في معنى { ولا يجرمنَّكم شنئان قوم } قريباً ، ولكنّه هنا صرّح بحرف ( على ) وقد بيّناه هنالك . والكلام على العدل تقدّم في قوله : { وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل } [ النساء : 58 ] .
والضمير في قوله : { هو أقرب } عائد إلى العدل المفهوم من { تعدلوا } ، لأنّ عود الضمير يُكتفى فيه بكلّ ما يفهم حتّى قد يعودُ على ما لا ذكر له ، نحو { حتّى توارتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] . على أنّ العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب :
المرتبة الأولى : أن تدخُل عليه ( أن ) المصدرية .
الثّانية : أن تُحذف ( أن ) المصدريّة ويبقى النصب بها ، كقول طرفة :
ألا أيّهذَا الزاجري أحْضُرَ الوغى *** وأن أشهدَ اللذاتِ هَلْ أنت مُخلدي
بنصب ( أحضرُ ) في رواية ، ودلّ عليه عطف ( وأن أشهد ) .
الثّالثة : أن تُحذف ( أن ) ويُرفع الفعل عملاً على القرينة ، كما روي بيت طرفة ( أحضرُ ) برفع أحضرُ ، ومنه قول المثل ( تَسْمَعُ بالمعيدي خير من أن تراه ) ، وفي الحديث « تحمل لأخِيك الركابَ صدقة »
الرابعة : عود الضمير على الفعل مراداً به المصدر ، كما في هذه الآية . وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتّى يخيّل للنّاظر أنّه مثال فَذٌّ في بابه ، وليس كذلك بل منه قوله تعالى : { وينذر الّذين قالوا اتّخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] . وأمثلته كثيرة : منها قوله تعالى : { ما لهم به من علم } [ الكهف : 5 ] ، فضمير { به } عائد إلى القول المأخوذ من { قالوا } ، ومنه قوله تعالى : { ذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه } [ الحج : 30 ] ، فضمير { فهو } عائد للتعظيم المأخوذ من فعل { يعظّم } ، وقول بشّار :
واللَّه ربّ محمَّد *** مَا إن غَدَرْت ولا نوَيتُه
ومعنى { أقرب للتقوى } أي للتقوى الكاملة الّتي لا يشذّ معها شيء من الخير ، وذلك أنّ العدل هو ملاك كبح النّفس عن الشهوة وذلك ملاك التّقوى .
الذي أحفظ عن كل من سمعت منه من أهل العلم في هذه الآيات أنه في الشاهد وقد لزمته الشهادة، وأن فرضا عليه أن يقوم بها على والديه، وولده، والقريب، والبعيد، وللبغيض القريب والبعيد، ولا يكتم عن أحد، ولا يحابي بها، ولا يمنعها أحدا. قال: ثم تتفرع الشهادات فيجتمعون ويختلفون فيما يلزم منها وما لا يلزم. 195- الأم: 7/92. و أحكام الشافعي: 2/138-139. والسنن الكبرى: 10/158.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري.
"وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلُوا": ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله.
"اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للتّقْوَى وَاتّقُوا اللّهَ إنّ الله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ": اعْدِلُوا أيها المؤمنون على كلّ أحد من الناس وليّا لكم كان أو عدوّا، فاحملوهم على ما أمرتم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.
"هُوَ أقْربُ للتّقْوَى": هو العدل عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. وإنما وصفه جلّ ثناؤه العدل بما وصف به من أنه أقرب للتقوى من الجور، لأن من كان عادلاً كان لله بعدله مطيعا، ومن كان لله مطيعا كان لا شكّ من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا كان بعيدا من تقواه.
"وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ": واحذروا أيها المؤمنون أن تجوروا في عباده، فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءه الذين بين لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله.
"إنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ": إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه من عمل به أو خلاف له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كله، حتى يجازيكم به جزاءكم المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ} ومعناه: كونوا قوامين لله بالحقّ في كل ما يُلْزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه، فهذا هو القيام لله بالحق. {شُهَدَاءَ بالقِسْطِ} يعني بالعدل؛ قد قيل في الشهادة إنها الشهادات في حقوق الناس، رُوي ذلك عن الحسن؛ وهو مثل قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. وقيل: إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم، كقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] فكان معناه: أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة. وقيل: أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق. وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها...
مطلب: فيما تضمنته الآية من الأمر بالعدل مع المحق والمبطل وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل، وحكم بأن كُفرَ الكافرين وظُلْمَهُمْ لا يمنع من العدل عليهم، وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقّون، وأن يقتصر بهم على المستحقّ من القتال والأسْرِ والاسترقاق دون المُثَلَةِ بهم وتعذيبهم وقَتْلِ أولادهم ونسائهم قصداً لإيصال الغمّ والألم إليهم...
فإن قيل: لما قال: {هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى} ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى، فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه؟ قيل: معناه: هو أقرب إلى أن تكونوا متّقين باجتناب جميع السّيئات، فيكون العدل فيما ذكر داعياً إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي؛ ويحتمل: هو أقرب لاتقاء النار. وقوله: {هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى} فقوله:"هو" راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل، كأنه قال: العدل أقرب للتقوى،..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف، فإنَّ مرتعَ الظلمِ وبيءٌ، ومواضع الزيغ مهلكة. ثم صرَّح بالأمر بالعدل فقال: {اعدلوا} ولا تكون حقيقة العدل إلا بالعدول عن كل حظٍ ونصيب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك. {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} نهاهم أولاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: {هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} أي العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
.. قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}: أَوْ (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قِيَامُهُ لِلَّهِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ يَكُونُ بِالْعَدْلِ، وَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ بِالْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ وَالْعَدْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ...
قَوْلُهُ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}:
يُرِيدُ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَ [نُفُوذُ] شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبُغْضُ وَرَدَ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصْتُمُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي اللَّهِ تَعَالَى؟
قُلْنَا: لِأَنَّ الْبُغْضَ فِي غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا بِقَوْلِ الْحَقِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَعَ عَدَاوَةٍ لَا تَحِلُّ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْوَصْفِ، وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
{يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} هذا أيضا متصل بما قبله، والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى. واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلا أنها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فقوله {كونوا قوامين لله} إشارة إلى النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله، ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وقوله {شهداء بالقسط} إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان: الأول: قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: قال الزجاج: المعنى تبينون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط، ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدئ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن، فبدئ فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدئ فيه بما هو آكد وهو القسط، وفي معرض العداوة والشنآن بدئ فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض بما جيء به إليه. وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} وقوله: {فلا جناح عليهما أن يصالحا} فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم القيام إلى الصلاة، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة، عبر بالكون فقال تعالى: {كونوا قوّامين} أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها. ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس، ويصح النشاط فيه، ويعظم العزم عليه بالتذكر بجلالة موثقه وعدم انتهاك حرمته، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ حده ورسمه، قدم قوله: {لله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
نادى الله المؤمنين في الآية الأولى من هذه السورة وأمرهم بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة بهيمة الأنعام لهم إلا ما استثنى وما حرم من الصيد في حال الإحرام. وناداهم في الآية الثانية بل الثالثة فنهاهم عن أشياء وأمرهم بأشياء، وحرم عليهم ما يضرهم من الطعام، إلا في حال الضرورة التي يرجح فيها أخف الضررين على أشدهما، وأحل لهم الطيبات، وصيد الجوارح المعلمات، وطعام أهل الكتاب ونساءهم إذا كن محصنات، وذلك في أربع آيات، وناداهم ثالثا فأمرهم بالطهارة، وامتن عليهم برفع الحرج، وذكرهم بنعمه عليهم، وميثاقه الذي واثقهم به، ثم ناداهم بعد في الآية الأولى والأخيرة من هذه الآيات بما ترى. وإذا راجعت سائر السورة تجد النداء فيها كثيرا منه نداء بني إسرائيل في سياق الكلام عنهم، ونداء النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ونداء المؤمنين مرارا أيضا. هذا أسلوب في الخطاب يجوز أن يكون كل نداء منه مبدأ موضوع مستقل لا يناسب ما قبله، على أن المناسبة بين هذه الآيات ظاهرة، فإنه تعالى بعد أن ذكرنا بميثاقه أمرنا بأن نكون قوامين له شهداء بالقسط وذكرنا وعده ووعيده لأننا بذلك يرجى أن نفي بميثاقه ولا ننقضه كما نقضه الذين من قبلنا كما حكى عنهم بعد هذه الآيات. ويظهر لك هذا الاتصال والتناسب مما يلي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} القوام هو: المبالغ في القيام بالشيء وهو الإتيان به مقوما تاما لا نقص فيه ولا عوج. وقد حذف هنا ما أمرنا بالمبالغة في القيام به فكان عاما شاملا لجميع ما أخذ علينا الميثاق به من التكاليف حتى المباحات، أي كونوا من أصحاب الهمم العالية وأهل الإتقان والإخلاص لله تعالى في كل عمل تعملونه من أمر دينكم أو أمر دنياكم. ومعنى الإخلاص لله في أعمال الدنيا أن تكون بينة صالحة بأن يريد العامل بعمله الخير والتزام الحق من غير شائبة اعتداء على حق أحد أو إيقاع ضرر به. والشهادة بالقسط معروفة وهي أن تكون بالعدل بدون محاباة مشهود له ولا مشهود عليه، لا لقرابته وولائه، ولا لماله وجاهه، ولا لفقره ومسكنته. فالشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره هو إياه بالحكم به، أو الإقرار به لصاحبه. والقسط هو ميزان الحقوق متى وقعت فيه المحاباة والجور لأي سبب أو علة من العلل زالت الثقة من الناس، وانتشرت المفاسد وضروب العدوان بينهم، وتقطعت روابطهم الاجتماعية، وصار بأسهم بينهم شديدا، فلا يلبثون أن يسلط الله تعالى عليهم بعض عباده الذين هم أقرب إلى إقامة العدل والشهادة بالقسط منهم فيزيلون استقلالهم، ويذيقونهم بالهم، وتلك سنة الله التي شهدناها في الأمم الحاضرة، وشهد بها تاريخ الأمم الغابرة، ولكن الجاهلين الغافلين لا يسمعون ولا يبصرون، فأنى يعتبرون ويتعظون؟
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ} أي ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو بغضكم وعداوتكم لهم، على عدم العدل في أمرهم، بالشهادة لهم بحقهم، إذا كانوا أصحاب الحق، ومثلها هنا الحكم لهم به، فلا عذر لمؤمن في ترك العدل وإيثاره على الجور والمحاباة، وجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس، وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما. فلا يتوهمن متوهم أنه يجوز ترك العدل في الشهادة للكافر، أو الحكم له بحقه للمؤمن.
ولم يكتف بالتحذير من عدم العدل مهما كان سببه والنية فيه، بل أكد أمره بقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي قد فرضت عليكم العدل فرضا لا هوادة فيه اعدلوا هو – أي العدل المفهوم من اعدلوا – أقرب لتقوى الله أي لاتقاء عقابه وسخطه باتقاء معصيته وهي الجور الذي هو من أكبر المعاصي لما يتولد منه من المفاسد {وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الخبرة العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار، أي لا يخفى عليه تعالى شيء من أعمالكم ظاهرها وباطنها، ولا من نياتكم وحيلكم فيها، وهو الحكم العدل القائم بالقسط، فاحذروا أن يجزيكم بالعدل على ترككم العدل، فقد مضت سنته العادلة في خلقه بأن جزاء ترك العدل وعدم إقامة القسط في الدنيا هو ذل الأمة وهوانها، واعتداء غيرها من الأمم على استقلالها، ولجزاء الآخرة أذل وأخزى، وأشد وأبقى. قال نبينا صلى الله عليه وسلم (إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو) رواه الطبراني عن جابر.
وقد تقدم في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] – فراجع تفسيرها في جزء التفسير الخامس – وما أطلنا به هناك يغنينا عن الإطالة هنا، على أن ما هنا أبلغ وإن كان أخصر، لأن حذف متعلق قوامين يدخل فيه القسط وغيره، وتأكيد الأمر بالعدل والشهادة لهم به يفيد وجوبه مع غيرهم بالأولى. ولما كان الأمر بالتقوى مما حتم على الإطلاق بعد بيان أن العدل هو أقرب ما يتقى به عقاب الله في الدنيا والآخرة لأنه قوام الصلاح للأفراد والإصلاح في الأقوام – ولما علل هذا الأمر المطلق بأن الله خبير بدقائق الأعمال وخفاياها، وكان هذا التعليل يشير إلى جزاء العاملين المتقين وغير المتقين – قال عز وجل في بيان الجزاء العام: {وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة، القوامة على البشرية بالعدل.. العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات.. والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور.. ومن ثم فهذا النداء: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون). لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام، على الاعتداء. وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم. فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل.. وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق. فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء. فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين! والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة. فيقدم له بما يعين عليه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله...) ويعقب عليه بما يعين عليه أيضًا: واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون.. إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله. حين تقوم لله، متجردة عن كل ما عداه. وحين تستشعر تقواه، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور. وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق، ويثبتها عليه. وما غير القيام لله، والتعامل معه مباشرة، والتجرد من كل اعتبار آخر، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى. وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين، كما يكفله لهم هذا الدين؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر؛ وأن يتعاملوا معه، متجردين عن كل اعتبار.
وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعا -معتنقيه وغير معتنقيه- أن يتمتعوا في ظله بالعدل؛ وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه، يتعاملون فيها مع ربهم، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن.. وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية. مهما يكن فيها من مشقة وجهاد. ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة؛ وأدت تكاليفها هذه؛ يوم استقامت على الإسلام. ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا، ولا مجرد مثل عليا، ولكنها كانت واقعا من الواقع في حياتها اليومية، واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة.. والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة. تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجا في عالم الواقع يؤدي ببساطة، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة.. إنها لم تكن مثلا عليا خيالية، ولا نماذج كذلك فردية. إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقا آخر سواه...
إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه. ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات!.. وهذا هو "الدين "في المفهوم الإسلامي دون سواه.. الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة. وحين تحقق "الدين" بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء.. وحين تحول "الدين" إلى وصايا على المنابر؛ وإلى شعائر في المساجد؛ وتخلى عن نظام الحياة.. لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} معنى النص الكريم: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان بالله والخضوع وكان ذلك الإيمان عنوانهم الذي يعرفون به، وشرفهم الذين يتشرفون به، كونوا قوامين لله، أي اجعلوا أنفسكم وإحساسكم ومشاعركم مطبوعة على أن تقوم لله ولأجل محبته سبحانه وطلب رضاه، لا لهوى النفس ومنازع الشهوات وكونوا شاهدين بالحق، لا تطلبون سواه وهذا هو المعنى الجلي المقرب لما اشتمل عليه النص الكريم، وهو أعلى من أن تتسع عبارتنا لمعناه. وهنا ملاحظات بيانية يجب اعتبارها والإشارة إلى كمال الحكمة في عمومها: الأولى: {كونوا} فهو أمر بالكينونة بأن يجعلوا القيام لله تعالى، والاعتبار به، والأخذ بهديه جزاء من كيانهم وذلك بأن يستمروا على الطاعة ويديموا عليها فإن الدوام على الفعل والاستمرار عليه يجعل النفس تنطبع به، ويكون جزءا منها فالأمر ب "كونوا "يتضمن الاستمرار والدوام وأحب الأعمال إلى الله تعالى ما أمكن الاستمرار عليه، ليكون عادة للنفس بمنزلة الطبيعة فالعادة طبع ثان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". ثانيهما: قوله تعالى: {قوامين لله} فإن قوام معناها: من يبالغ بالقيام بالشيء وإتقانه والإتيان به على الوجه الأكمل، وكونه لله تعالى معناه أن تكون تلك المبالغة في الفعل لأجل الله تعالى لا شيء سواه وهذا يتضمن "أمرين": أحدهما: أن يعمل الشخص على إتقان ما يعمل والمبالغة، فإن كان عبادة أتى بها على أكمل وجوهها، فالصلاة تكون كاملة وكذلك الصوم..إلخ، وهذا يشمل ما يعمله الإنسان في الحياة سواء أكان عبادة أم كان أمرا من أمور الدنيا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". وثانيهما: أن يكون ذلك لله، بأن يكون أصل العمل لله، وأن يكون إتقانه لله تعالى، فيتجه في كل الأعمال إلى الله تعالى فالعامل في المصنع يعمل لله إن قصد بذلك نفع عباده، والتاجر كذلك وإذا قصد بأعماله وجه الله وما فيها من خير للعموم كان في عبادة مستمرة، وليست العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل كل عبادة إذا قصد بها وجه الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله". الثالثة: في قوله تعالى: {شهداء بالقسط} فإن شهداء تدل على الحضور، وعلى الإثبات وأداء الشهادة وعلى الحكم وهي في النص الكريم تشمل كل هذا فالمعنى: لا يحكمون إلا بالقسط أي العدل، ولا يشهدون إلا بالعدل ولا يشهدون الزور، ولا يحضرون، إلا ما يكون قسطا وعدلا، وما يكون قسطاسا مستقيما لا تحيف فيه ولا انحراف، والمؤدى أن يكون حضورهم في القسط، ونطقهم بالقسط وحكمهم بالقسط وعملهم بالقسط فلا يكون إلا للخير وفي سبيل الخير دائما. وعبر بالقسط، لأنه شامل للخير كله، ولأن العدل ميزان الخير، ولذا قال من بعد: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا}. الجرم في أصل معناه اللغوي: القطع فيقال جرم الثمار أي قطعها ثم أطلق على الكسب وغلب على الكسب الآثم، ومنه أجرم بمعنى ارتكب إثما، لأنه كسبه، وقد يتضمن معنى الحمل مع اشتماله على معنى الكسب الآثم وهذا هو القريب من المعنى هنا، فمعنى {ولا يجرمنكم شنآن} لا يحملنكم حملا آثما شنآن قوم ألا تعدلوا، والشنآن: البغض الشديد مصدر شنأه بمعنى أبغضه والمعنى لا يحملنكم البغض الشديد لقوم على ألا تعدلوا معهم بل أعطوهم حقوقهم ومكنوهم مما يستحقون وفي صدر هذه السورة يقول سبحانه: {...ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا... (2)} (المائدة)، والمعنى هناك: أنه لا يصح أن يحمل البغض بسبب الصد عن المسجد الحرام على الاعتداء ففيها أمر بعدم الاعتداء أما هنا، فإن فيها أمرا بالعدالة حتى مع الأعداء فالعدالة نظام هذا الوجود الإنساني وبجمع الآيتين يكون المعنى المقرب لمراد الله سبحانه أنه لا يصح أن يكون البغض الشديد حاملا على الاعتداء، ولا أن يكون البغض الشديد حاملا على منع الحقوق بل يعطى كل ذي حق حقه ولو كان عدوا مبينا، فالحق ليس منحة من شخص يسلبه إن أبغض، ويعطيه إن أحب، بل إن التمكين منه واجب مقدس أمر الله سبحانه وتعالى به، وحث عليه، وقد روي في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". ولا ينتظم الوجود الإنساني بغير العدل، وقد روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو" ومعنى هذا الحديث: أنه لا يصح أن يظلم غير المسلم الذي يعيش مع المسلمين، والدولة إذا ظلمت رعاياها من غير المسلمين لا تكون دولة الإسلام بل تكون دولة الأعداء... {اعدلوا هو أقرب للتقوى} الضمير في قوله "هو" يعود إلى العدل الذي تضمنه قوله تعالى: {اعدلوا}.
وقوله تعالى من قبل: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} والمعنى: اعدلوا، فالعدل أقرب للتقوى وفي النص انتقال من النهي إلى الأمر ففي النص الأول نهى عن أن يحملهم البغض على عدم العدل وفي هذا النص أمر بالعدل ولا شك أن النص الأول يتضمن الأمر بالعدل لأن النهي عن الشيء أمر بنقيضه فالنهي عن الظلم أمر بالعدل فكان ثمة تكرار مؤكد، وكان مع التكرار فائدة وهي طلب معالجة النفس، ومحاولة ترويضها على العدل، فإن قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} فيه أمر بعلاج النفس، وحملها على البقاء في دائرة الاعتدال وتقوية للإرادة حتى لا يستولي عليها الغضب، فتجمح وفي الجموح سير وراء شيطان الغضب، ووراء ذلك منع الحقوق، والظلم. وقوله تعالى: {هو أقرب للتقوى} فيه بيان قرب العدالة من التقوى، مع أن العدل من صميم التقوى فلماذا عبر بالقرب من العدالة مع أن العدالة في ذاتها تقوى مؤكدة، وخصوصا في حال المغالبة النفسية والبغض الشديد؟ والجواب عن ذلك أن قلب المؤمن في معاملته مع غير المؤمن قد تعتريه حال يرى فيه أن من التقوى ألا يعطيه حقه، لأنه في ميدان القتال يستبيح ماله ويستبيح دمه، فيظن حال السلم كحال الحرب، ويظن ذلك قريبا من التقوى فبين له القرآن الكريم أن القرب من التقوى أن يحسن معاملته وأن يعطي كل ذي حق حقه، فذلك دفعا للخاطر بمثله، أو بما يقرب إليه المعنى في التعبير، ولأن كمال التقوى بعيد المنال، وأنها إذا كانت مطلوبة فإن الله يعفو عن كمالها، ويكتفي منا بقربها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا" فالله جل جلاله غفور رحيم يطلب منا المقاربة بعد أن نسدد ونقارب ولقد طلب سبحانه منا أن نسدد فقال تعالى: {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} أمرنا الله تعالى بالتقوى في كل الأمور في ذات أنفسنا بأن نراقب الله في كل عمل نعمله، فلا نعمل إلا طيبا ولا نقول إلا طيبا ولا نأكل إلا طيبا، ونخشى الله حق خشيته، ونقوم بعبادته مسددين مقاربين، ونتقي الله فيما بيننا ونكون عباد الله إخوانا، ويكون التعاون الحكم بيننا، ونتقي الله تعالى في مخالفينا فلا يكون منا عليهم اعتداء ولا ظلم بل تقريب وائتلاف، وإن كان منهم اعتداء دفعناه من غير أن نتجاوز حد الدفع.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ الآية الأولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف.
فتخاطب هذه الآية أوّلا المؤمنين قائلة: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط).
ثمّ تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة، وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سبباً للاعتداء على حقوق الآخرين، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء، فتقول الآية الكريمة: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا...) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول (أعدلوا هو أقرب للتقوى).
وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة: (واتقوا الله إِنّ الله خبير بما تعملون).
والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء، يتحدد من عدّة جهات:
أوّلا: إِنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إِقامة العدل والشهادة لله، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله، لا لأقارب وذوي الشاهد، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.
ثانياً: أشارت الآية الواردة في سورة النساء إلى واحد من عوامل الانحراف عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إلى عامل آخر في نفس المجال، فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له.
ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأولى في جملة: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا...) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية، لا من دافع الحب أو الكراهية، وعلى هذا الأساس فإِنّ المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى.
قلما نجد قضية أعطى الإِسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل، فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبعبارة أُخرى: كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقاً عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبداً من روح العدل.
وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحداً من أُصول العقيدة والدين، وأساساً من أُسس الفكر الإِسلامي، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإِلهية، إِلاّ أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه، ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإِسلام من الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإِسلامية الأُخرى من ذلك.