بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته ؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي ، بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف :
( يوم نقول لجهنم : هل امتلأت : وتقول : هل من مزيد ? ) .
إن المشهد كله مشهد حوار . فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب . . هذا هو كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . . هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعا ، وتتكدس ركاما . ثم تنادى جهنم : ( هل امتلأت ? )واكتفيت ! ولكنها تتلمظ وتتحرق ، وتقول في كظة الأكول النهم : ( هل من مزيد ? ! ) . . فيا للهول الرعيب !
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت ؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين ، فهو سبحانه يأمر بمن {[27319]} يأمر به إليها ، ويلقى وهي تقول : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي : هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية ، وعليه تدل الأحاديث :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُلقَى في النار ، وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع قدمه فيها ، فتقول قط قط " {[27320]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط ، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول {[27321]} الجنة " {[27322]} .
ثم رواه مسلم من حديث قتادة ، بنحوه{[27323]} . ورواه أبان العطار وسليمان التيمي ، عن قتادة ، بنحوه {[27324]} .
حديث آخر : قال {[27325]} البخاري : حدثنا محمد بن موسى القطان ، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي ، حدثنا عَوْف ، عن محمد عن أبي هريرة - رفعه ، وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان - : " يقال لجهنم : هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد ، فيضع الرب ، عز وجل ، قدمه عليها {[27326]} ، فتقول : قط قط " {[27327]} .
رواه أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، به {[27328]} .
طريق أخرى : قال{[27329]} البخاري : وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام {[27330]} عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم . قال الله ، عز وجل ، للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي{[27331]} بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا آخر " {[27332]} .
حديث آخر : قال {[27333]} مسلم في صحيحه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتجت الجنة والنار ، فقالت النار : فيَّ الجبارون والمتكبرون . وقالت الجنة : فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم . فقضى بينهما ، فقال للجنة : إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي . وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها " انفرد به مسلم دون البخاري {[27334]} من هذا الوجه . والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم .
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، عن أبي سعيد بأبسط من هذا السياق فقال :
حدثنا حسن وروح قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " افتخرت الجنة والنار ، فقالت النار : يا رب ، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف . وقالت الجنة : أي رب ، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين . فيقول الله ، عز وجل ، للنار : أنت عذابي ، أصيب بك من أشاء . وقال للجنة : أنت رحمتي ، وسعت كل شيء ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فيلقى في النار أهلها فتقول : هل من مزيد ؟ قال : ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يأتيها{[27335]} عز وجل ، فيضع قدمه عليها ، فتزوي وتقول : قدني ، قدني . وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ، فينشئ الله لها خلقا ما يشاء " {[27336]} .
حديث آخر : وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، حدثنا يونس ، حدثنا عبد الغفار بن القاسم ، عن عُدي بن ثابت ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يعرفني الله ، عز وجل ، نفسه يوم القيامة ، فأسجد سجدة يرضى بها عني ، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط - مضروب بين ظهراني جهنم - فيمرون أسرع من الطرف والسهم ، وأسرع من أجود الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو ، وهي الأعمال . وجهنم تسأل المزيد ، حتى يضع فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ! وأنا على الحوض " . قيل : وما الحوض يا رسول الله ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، إن شرابه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك . وآنيته أكثر من عدد النجوم ، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ، ولا يصرف فيروى أبدا " {[27337]} . وهذا القول هو اختيار ابن جرير .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الحمَّاني{[27338]} عن نضر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } قال : ما امتلأت ، قال : تقول : وهل في من مكان يزاد في .
وكذا روى الحكم بن أبان عن عكرمة : { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } : وهل في مدخل واحد ، قد امتلأت .
[ و ] {[27339]} قال الوليد بن مسلم ، عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدًا يقول : لا يزال يقذف فيها حتى تقول : قد امتلأت فتقول : هل [ فيَّ ] {[27340]} من مزيد ؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا .
فعند هؤلاء أن قوله تعالى : { هَلِ امْتَلأتِ } ، إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه ، فتنزوي وتقول حينئذ : هل بقي في [ من ] {[27341]} مزيد ؟ يسع شيئا .
قال العوفي ، عن ابن عباس : وذلك حين لا يبقى فيها موضع [ يسع ]{[27342]} إبرة . فالله{[27343]} أعلم .
{ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير ، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجا فوجا حتى تمتلئ لقوله تعالى : { لأملأن جهنم } ، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم . وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالباء وال { مزيد } إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع ، و{ يوم } مقدر باذكر أو ظرف ل { نفخ } فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف .
وقوله تعالى : { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله : { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر .
وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم : «نقول » بالنون ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله : «قدمت وما أنا » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : «يقول » على معنى يقول الله ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة ، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً : «يقال » على بناء الفعل للمفعول .
وقوله : { هل امتلأت } تقرير وتوقيف ، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير ؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها : { هل من مزيد } . فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها : { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد ، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[10543]} وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ، ومن قال : إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة . قال الرماني وقيل المعنى : وتقول خزنتها ، والقول إنها القائلة أظهر .
واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز ؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى :
شكا إلي جملي طول السرى{[10544]} ،
تكلمني أحجاره وملاعبه{[10545]} .
والذي يترجح في قول جهنم : { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك ، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول : { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض »{[10546]} واضطرب الناس في معنى هذا الحديث ، وذهبت جماعة من المتكلمين ، إلى أن الجبار اسم جنس ، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم ، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً » ويعظم بدنه على هذه النسبة{[10547]} ، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى ، وهذا هو الصحيح ، فإن في الحديث الصحيح : «فيضع رب العالمين فيها قدمه »{[10548]} وتأويل هذا : ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ، ومنه قول الله تعالى : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم }{[10549]} [ يونس : 2 ] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [ الوضاح الخصي ] : [ المنسرح ]
صل لربك واتخذ قدماً . . . ينجيك يوم العثار والزلل{[10550]}
وسنى الملك لملك ذي قدم . . . {[10551]}
أي ذي شرف متقدم ، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك{[10552]} وعن النضر بن شميل{[10553]} ، وهو قول الأصوليين . وفي كتاب مسلم بن الحجاج : ( فيضع الجبار فيها رجله ){[10554]} ، ومعناه : الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس : رجل تشبيهاً برجل الجراد ، قال الشاعر :
فمر بها رجل من الناس وانزوى . . . إليها من الحي اليماني أرجل{[10555]} .
وملاك النظر في هذا الحديث : أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ "يقول: وما أنا بظلام للعبيد في "يَوْمَ نَقُولُ لجَهَنّمَ هَلْ امْتَلأْتِ" وذلك يوم القيامة، ويوم نقول من صلة ظلاّم. وقال تعالى ذكره لجهنم يوم القيامة: هَلِ امْتَلأْتِ؟ لما سبق من وعده إياها بأنه يملأها من الجِنّة والناس أجمعين.
وأما قوله: "هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: ما من مزيد. قالوا: وإنما يقول الله لها: هل امتلأت بعد أن يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قطِ قطِ، من تضايقها، فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأت؟ قالت حينئذ: هل من مزيد: أي ما من مزيد، لشدّة امتلائها، وتضايق بعضها إلى بعض...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: زدني، إنما هو هل من مزيد، بمعنى الاستزادة...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو بمعنى الاستزادة، هل من شيء أزداده؟
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاويّ، قال: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هُريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، لَمْ يَظْلِمِ اللّهُ أحَدا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئا، وَيُلْقِي فِي النّارِ، تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ عَلَيْها قَدَمَهُ، فَهُنالكَ يَمْلأُها، وَيُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ».
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{يوم نقول لجهنم هل امتلأت} وهذا استفهام تحقيق، وذلك أن الله عز وجل وعدها أن يملأها، فلما ملأها قال لها {هل امتلأت وتقول هل من مزيد} أي هل بقي في موضع لم يمتلئ، أي قد امتلأت...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملأها من الجنة والناس أجمعين، فهو سبحانه يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي: هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث: قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُلقَى في النار، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها، فتقول قط قط "...
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة". ثم رواه مسلم من حديث قتادة، بنحوه. ورواه أبان العطار وسليمان التيمي، عن قتادة، بنحوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم} ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: {نقول} أي على ما لنا من العظمة التي لا- يسوغ لشيء أن يخفى عنها {لجهنم} دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة: {هل امتلأت}...
وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول: لا، {وتقول} طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلئ لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً: {هل من مزيد} أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هل امتلأت؟) واكتفيت! ولكنها تتلمظ وتتحرق، وتقول في كظة الأكول النهم: (هل من مزيد؟!).. فيا للهول الرعيب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظرف متعلق ب {قال لا تختصموا لدى} [ق: 28]. والتقدير: قال لهم في ذلك القول يوم يقول قولاً آخر لجهنم {هل امتلأت}. ومناسبته تعليقه به أن هذا القول لجهنم مقصود به ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها، فحكاه الله في القرآن عبرة لمن يسمعه من المشركين وتعليماً لأهل القرآن المؤمنين ولذلك استوت قراءة {يقول} بالياء، وهي لنافع وأبي بكر عن عاصم جريا على مقتضى ظاهر ما سبقه من قوله: {قال لا تختصموا لدى}. وقراءة الباقين بالنون على الالتفات بل هو التفات تابع لتبديل طريق الإخبار من الحديث عن غائب إلى خطاب حاضر.
والقول الأول حقيقي وهو كلام يصدر من جانب الله بمحض خلقه دون واسطة. فلذلك أسند إلى الله كما يقال القرآن كلام الله.
والاستفهام في {هل امتلأت} مستعمل في تنبيه أهل العذاب إلى هذا السؤال على وجه التعريض.
وأما القول لجهنم فيجوز أن يكون حقيقة بأن يخلق الله في أصوات لهيبها أصواتاً ذات حروف يلتئم منها كلام، ويجوز أن يكون مجازاً عن دلالة حالها على أنها تسع ما يلقى فيها من أهل العذاب بأن يكشف باطنها للمعروضين عليها حتى يروا سعتها...
والاستفهام في {هل من مزيد} مستعمل للتشويق والتمنّي.
وفيه دلالة على أن الموجودات مشوقة إلى الإيفاء بما خلقت له كما قال الشيطان {قال فبما أغويتني لأقعُدَنّ لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]. وفيه دلالة على إظهار الامتثال لما خلقها الله لأجله، ولأنها لا تتلكّأ ولا تتعلل في أدائه على أكمل حال في بابه.