كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة - حين توفي العدة - ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) . .
وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار ، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] فكانت عنده ما كانت . ثم طلقها تطليقة لم يراجعها ، حتى انقضت عدتها ؛ فهويها وهويته ؛ ثم خطبها مع الخطاب . فقال له : يا لكع ابن لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها . والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك . قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن )إلى قوله : ( وأنتم لا تعلمون ) . . فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة . ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك . .
وهذه الاستجابة الحانية من الله - سبحانه - لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم ، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده . . أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد ، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة ، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم ، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال .
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير :
( ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب . حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض ؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع . . والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة ، واغتنام الزكاة والطهر . لنفسه وللمجتمع من حوله . ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام .
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة ، ويعلقه بعروة الله ، ويطهره من شوائب الأرض ، وأدران الحياة ، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها{[3982]} وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها . وكذا{[3983]} روى العوفي ، عنه ، وكذا قال مسروق ، وإبراهيم النخعي ، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك . وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في تزويجها{[3984]} من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما جاء في الحديث : لا تزوج المرأةُ المرأةَ ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها{[3985]} . وفي الأثر الآخر : لا نكاح إلا بولي مرشد ، وشاهدي عدل . وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري ، رحمه الله ، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية :
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي - قال البخاري : وقال إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن : حدثني معقل بن يسار . وحدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، فأبى معقل ،
فنزلت : { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }{[3986]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه من طرق متعددة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، به{[3987]} . وصححه الترمذي أيضًا ، ولفظه عن معقل ابن يسار : أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع{[3988]} أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها ! والله لا ترجع إليك أبدًا ، آخر ما عليك قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها معقل قال : سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .
وروى ابن جرير{[3989]} عن ابن جريج قال : هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ، وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : هي فاطمة بنت يسار . وهكذا ذكر غير واحد من السلف : أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته . وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله ، وابنة عم له ، والصحيح الأول ، والله أعلم .
وقوله : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يؤمن بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة{[3990]} وما فيها من الجزاء { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي : اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك ، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن ، وعن الشافعي رحمه الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين . { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } المخاطب به الأولياء لما روي ( أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف ) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن . وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا ، لأنه جواب قوله { وإذا طلقتم النساء } . وقيل الأولياء والأزواج . وقيل الناس كلهم ، والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له والعضل الحبس والتضييق منه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج . { إذا تراضوا بينهم } أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن . { بالمعروف } بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة ، حال من الضمير المرفوع ، أو صفة لمصدر محذوف ، أو تراضيا كائنا بالمعروف . وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه . { ذلك } إشارة إلى ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كل واحد ، أو أن الكاف لمجرد الخطاب . والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد . { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه المتعظ به والمنتفع . { ذلكم } أي العمل بمقتضى ما ذكر . { أزكى لكم } أنفع . { وأطهر } من دنس الآثام . { والله يعلم } ما فيه النفع والصلاح . { وأنتم لا تعلمون } لقصور علمكم .