ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ؛ وسيجزي الله الشاكرين . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ؛ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ؛ وسنجزي الشاكرين . وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين ) . .
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ، حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ، فركبه المشركون ، وأوقعوا بالمسلمين ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، ونزفت جراحه ؛ وحين اختلطت الأمور ، وتفرق المسلمون ، لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمدا قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة ، مصعدين في الجبل منهزمين ، تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله [ ص ] في تلك القلة من الرجال ؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ، حتى فاءوا إليه ، وثبت الله قلوبهم ، وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟
إن محمدا رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء ، والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله [ ص ] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم ، وبكل مشاعرهم ، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره [ ص ] . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد [ ص ] والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ، العميقة في منابت التاريخ ، المبتدئة مع البشرية ، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية ، وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون ، وتبقى هي على الأجيال والقرون ، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول ، الذي أرسل بها الرسل ، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ، ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :
ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :
( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : ( انقلبتم على أعقابكم ) . . ( ومن ينقلب على عقبيه ) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : " فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله [ ص ] " .
( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) . .
فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي [ ص ] وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد [ ص ] ولكن جاء فقط ليومىء إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد [ ص ] إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول [ ص ] أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه ، يهدد به من يقول : إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر ، الموصول القلب بصاحبه ، وبقدر الله فيه ، الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع ، فإذا هم يثوبون ويرجعون !
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد ، وقُتِل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمدًا قد قُتل . ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدًا . وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَشَجَّه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل ، وجوزوا عليه ذلك ، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء ، عليهم السلام ، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله [ عز وجل ]{[5779]} على رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أي : له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه .
قال ابن أبي نَجيح ، عن أبيه ، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[5780]} قد قُتِل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } رواه [ الحافظ أبو بكر ]{[5781]} البيهقي في دلائل النبوة{[5782]} .
ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : رجعتم القَهْقرى { وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } أي : الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه ، واتبعوا رسوله حيا وميتا .
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن{[5783]} وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع ، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ ، رضي الله عنهما ؛ أن الصدّيق - رضي الله عنه - تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5784]} .
وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقيل عن ابن شهاب ، أخبرني أبو سَلَمة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، أخبرته أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح {[5785]} حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يُكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه [ صلى الله عليه وسلم ]{[5786]} ثم أكب عليه وقَبَّله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي . والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين ؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها .
وقال الزهري : وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس ، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث{[5787]} الناس فقال : اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس ، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ ، فقال أبو بكر : أما بعد ، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت ، قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال : فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه{[5788]} كلهم ، فما سمعها{[5789]} بشر من الناس إلا تلاها{[5790]} .
وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي{[5791]} وحتى هَوَيتُ إلى الأرض{[5792]} .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القنَّاد ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن سماك بن حَرْب ، عن عكْرمة ، عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ، ووليُّه ، وابن عمه ، ووارثه فمن أحق به مني ؟{[5793]} .
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل . { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } إنكارا لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به . وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته . روي ( أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قتلت محمدا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلي عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون ، وقال بعضهم : ليت ابن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه ، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل ) فنزلت . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } بارتداده بل يضر نفسه . { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه .