ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس ، يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح . مشهد يتمثل فيه الوجود كله ، بمن فيه وما فيه ، شاخصا يسبح لله : إنسه وجنه ، أملاكه وأفلاكه ، أحياؤه وجماده . . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه ، في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه :
( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض ، والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) . .
إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ؛ فإن من حوله ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . . إخوان له من خلق الله ، لهم طبائع شتى ، وصور شتى ، وأشكال شتى . ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله ، ويتوجهون إليه ، ويسبحون بحمده : ( والله عليم بما يفعلون ) . .
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله ، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض ، وهم يسبحون بحمده وتقواه ؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه ، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه . ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله : ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . . والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ؛ وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة .
وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه ، مسبحا بحمده ، قائما بصلاته ؛ وإنه لكذلك في فطرته ، وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه . وإن الإنسان ليدرك - حين يشف - هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله . وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه . . كذلك كان محمد بن عبد الله - صلاة الله وسلامه عليه - إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه . وكذلك كان داود - عليه السلام - يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض ، أي : من الملائكة والأناسي ، والجان والحيوان ، حتى الجماد ، كما قال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] .
وقوله : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي : في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه ، وهو يعلم ما هي فاعلة ؛ ولهذا قال : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله ، عز وجل .
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ؛ ولهذا{[21285]}قال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر أن الله يسبح له} يقول: ألم تعلم أن الله يذكره {من في السماوات} من الملائكة {و} من في {والأرض} من المؤمنين: من الإنس والجن {والطير صافات} الأجنحة {كل} من فيها: في السماوات والأرض {قد علم صلاته} من الملائكة، والمؤمنين من الجن والإنس، ثم قال عز وجل: {وتسبيحه} يعني: ويذكره كل مخلوق بلغته غير كفار الإنس والجن {والله عليم بما يفعلون}..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فتعلم أن الله يصلي له من في السموات والأرض من مَلَك وإنس وجنّ. "والطّيْرُ صَافّاتٍ "في الهواء أيضا تسبح له.
"كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَه"، والتسبيح عندك صلاة، فيقال: قيل: إن الصلاة لبني آدم والتسبيح لغيرهم من الخلق، ولذلك فصّل فيما بين ذلك...
ويتوجه قوله: "كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ" لوجوه: أحدها: أن تكون الهاء التي في قوله: صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ من ذكر «كلّ»، فيكون تأويل الكلام: كل مصلّ ومسبح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه، ويكون «الكلّ» حينئذٍ مرتفعا بالعائد من ذكره في قوله: "كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ"، وهو الهاء التي في الصلاة.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح أيضا ل«الكلّ»، ويكون «الكلّ» مرتفعا بالعائد من ذكره عليه في: عَلِمَ، ويكون: عَلِمَ فعلاً ل«الكلّ»، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: قد علم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبيحه الذي كُلّفه وأُلْزمه.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح من ذكر الله، والعلم ل«الكل»، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: قد علم كلّ مسبّح ومُصَلّ صلاة الله التي كلّفه إياها، وتسبيحه.
وأظهر هذه المعاني الثلاثة على هذا الكلام، المعنى الأوّل، وهو أن يكون المعنى: كلّ مصلّ منهم ومسبّح، قد علم الله صلاته وتسبيحه.
وقوله: "وَاللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ" يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها ومعصيتها، محيط بذلك كله، وهو مجازيهم على ذلك كله.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، فإن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات، فجميع ما خلقه الله منزّه له من جهة الدلالة عليه، والعقلاء المطيعون ينزهونه من جهة الاعتقاد والوصف له بما يليق به وتنزيهه عما لا يجوز عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ألم تر} تنبيه، و «الرؤية» رؤية الفكر... {من في السماوات والأرض} عامة لكل شيء من له عقل وسائر الجمادات، لكنه لما اجتمع ذلك عبر عنه ب {من} تغليباً لحكم من يعقل...
اعلم أنه سبحانه لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد:
فالنوع الأول: ما ذكره في هذه الآية ولا شبهة في أن المراد ألم تعلم، لأن التسبيح لا تتناوله الرؤية بالبصر ويتناوله العلم بالقلب، وهذا الكلام وإن كان ظاهره استفهاما فالمراد التقرير والبيان، فنبه تعالى على ما يلزم من تعظيمه بأن من في السماوات يسبح له وكذلك من في الأرض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك: {ألم تر} أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشاهدة {أن الله} الحائز لصفات الكمال {يسبح له} أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة {من في السماوات}.
ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: {والأرض} أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب "من "لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً: {والطير صافات} أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال: ليله قائم، ونهاره صائم، {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} [المائدة: 13] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال: {كل} أي من المخلوقات {قد علم} أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال {صلاته} أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه {وتسبيحه} أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتاً جامداً، وهذا بنموه مهتزاً رابياً، إلجاء وقهراً، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة...
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم بما يفعلون} بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185] ما ينفع هنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح؛ فإن من حوله، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته؛ وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال.. إخوان له من خلق الله، لهم طبائع شتى، وصور شتى، وأشكال شتى. ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده: (والله عليم بما يفعلون).. والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله، وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض، وهم يسبحون بحمده وتقواه؛ ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه، فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه. ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد الله: (كل قد علم صلاته وتسبيحه).. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه؛ وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{كل قد علم صلاته وتسبيحه}...فتسبيح العقلاء حقيقة، وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه. وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين: فريق العقلاء. وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة {كل} فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي. فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازاً على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع؛ ولولا إرادة ذلك لقيل: كل قد علم تسبيحه، أو كل قد علم صلاته. والخطاب في قوله: {ألم تر} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد من يَبلُغ إليه، أو الخطاب لغير معيّن فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الاستفهام في {ألم تر}، إنكاري بمعنى النفي مع التنبيه إلى الحقائق لإدراكها، وهو داخل على نفي، وهو (لم)، ونفي النفي إثبات، والمعنى: قد رأيت أن الله يسبح له من في السموات والأرض...والتعبير ب (من) في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} مع أن فيها ما لا يعقل، فلأنها كلها في دلالتها على التسبيح أقيمت مقام العاقل، ولأن فيها عقلاء وغير عقلاء، غلّب في البيان العقلاء، لأنهم أعلى مكانة من غيرهم كالملائكة، فإنهم أعلى من غيرهم، ومثل ذلك عقلاء الإنس والجن المهديون، وغيرهم...
{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}، أي تطير في الفضاء تسير صافات، أي في صفوف متتالية ومتوازية، الأجنحة وراء الأجنحة، كما ترى في أسراب الحمام وغيرها من الطير من انتقالها من مكان إلى مكان متآخية منتظمة في صفوف، وذلك من إلهام العلي الخبير لها...