( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ )
وبعد الاستقرار من المشوار ، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها ، ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا ، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم ، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين :
قالوا : يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام :
والميرة الزاد ، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم :
ويبدو من قولهم : ( ونزداد كيل بعير )أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب ، كي يظل هناك قوت للجميع :
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم ، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم ، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، فلما وجدوها في متاعهم { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } ؟ أي : ماذا نريد ؟ { هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } كما قال قتادة . ما نبغي وراء هذا{[15226]} ؟ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل .
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي : إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، كان يعطي كل رجل حمل بعير . وقال مجاهد : حمل حمار . وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا ، كذا قال .
{ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي : إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي هََذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم الذي حملوه من مصر من عند يوسف ، وجدوا بضاعتهم ، وذلك ثمن الطعام الذي اكتالوه منه ردّت إليهم . قالُوا يا أبانا ما نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنا رُدّتْ إلَيْنا يعني أنهم قالوا لأبيهم : ماذا نبغي ؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا تطييبا منهم لنفسه بما صنع بهم في ردّ بضاعتهم إليه . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى كانت «ما » استفهاما في موضع نصب بقوله : نَبْغِي . وإلى هذا التأويل كان يوجهه قتادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما نَبْغِي يقول : ما نبغي وراء هذا ، إن بضاعتنا رُدّت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيلُ .
وقوله : وَنميرُ أهْلَنا يقول : ونطلب لأهلنا طعاما فنشتريه لهم ، يقال منه : مَارَ فلان أهله يَميرهم مَيْرا ، ومنه قول الشاعر :
بَعَثْتُكَ مائِرا فَمَكَثْتَ حَوْلاً *** مَتى يَأْتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيثُ
وَنَحْفَظُ أخانا الذي ترسله معنا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يقول : ونزداد على أحمالنا من الطعام حمل بعير يكال لنا ما حمل بعير آخر من إبلنا ، ذلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ يقول : هذا حِمل يسير . كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ قال : كان لكل رجل منهم حمل بعير ، فقالوا : أرسل معنا أخانا نزداد حمل بعير . وقال ابن جريج : قال مجاهد : كَيْلَ بَعِيرٍ حمل حمار . قال : وهي لغة . قال القاسم : يعني مجاهد : أن الحمار يقال له في بعض اللغات : بعير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يقول : حمل بعير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ نَعُد به بعيرا مع إبلنا ذلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ .
أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب . وتقدم عند قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النساء ( 102 ) . وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحالّ فيه .
وجملة { قالوا يا أبانا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنه مفاجأة غريبة ، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء .
و { ما } في قوله : { ما نبغي } يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى ، أي ماذا نطلب بعد هذا . ويجوز كون { ما } نافية ، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي .
وجملة { هذه بضاعتنا ردت إلينا } مبينة لجملة { ما نبغي } على الاحتمالين . وإنما علموا أنها رُدّت إليهم بقرينة وَضْعها في العِدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين ، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف عليه السلام من العطف عليهم ، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } [ سورة يوسف : 59 ] .
وجملة { ونمير أهلنا } معطوفة على جملة { هذه بضاعتنا ردت إلينا } ، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صَار إلينا ونمير به أهلنا ، أي نأتيهم بالميرة .
والميرة بكسر الميم بعدها ياء ساكنة : هي الطعام المجلوب .
وجملة { ونحفظ أخانا } معطوفة على جملة { ونمير أهلنا } ، لأن المير يقتضي ارتحالاً للجلب ، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقاً لهم في الارتحال الذكور ، فكانت المناسب بين جملة { ونمير أهلنا } وجملة { ونحفظ أخانا } بهذا الاعتبار ، فذكروا ذلك تطميناً لخاطر فيهم .
وجملة { ونزداد كيل بعير } زيادةٌ في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير ، لأن يوسف عليه السلام لا يعطي الممتارَ أكثر من حمل بعير من الطعام ، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حِمل بعير في عداد الإخوة . وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها .
وهذه الجمل مرتبة ترتيباً بديعاً لأن بعضها متولد عن بعض .
والإشارة في { ذلك كيل يسير } إلى الطعام الذي في متاعهم . وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة .
قيل : إن يعقوب عليه السلام قال لهم : لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما فتحوا متاعهم}، يعني حلوا أوعيتهم،
{ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} بعد {هذه}، فإنهم قد ردوا علينا الدراهم، هذه {بضاعتنا}، يعني دراهمنا
{ردت إلينا ونمير أهلنا} الطعام،
{ونحفظ أخانا} بنيامين من الضيعة،
{كيل بعير}، وكان أهل مصر يبيعون الطعام على عدة الرجال، ولا يبيعون على عدة الدواب، وكان الطعام عزيزا، فذلك قوله: {كيل بعير} من أجله، {ذلك كيل يسير}: سريع لا حبس فيه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولما فتح إخوة يوسف متاعهم الذي حملوه من مصر من عند يوسف، وجدوا بضاعتهم، وذلك ثمن الطعام الذي اكتالوه منه ردّت إليهم. "قالُوا يا أبانا ما نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنا رُدّتْ إلَيْنا "يعني أنهم قالوا لأبيهم: ماذا نبغي؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا تطييبا منهم لنفسه بما صنع بهم في ردّ بضاعتهم إليه. وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى كانت «ما» استفهاما في موضع نصب بقوله: "نَبْغِي"؟...
وقوله: "وَنميرُ أهْلَنا" يقول: ونطلب لأهلنا طعاما فنشتريه لهم...
"وَنَحْفَظُ أخانا" الذي ترسله معنا "وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ" يقول: ونزداد على أحمالنا من الطعام حمل بعير يكال لنا ما حمل بعير آخر من إبلنا.
"ذلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ" يقول: هذا حِمل يسير...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) سوى الثمن؛ فقد رد إلينا دراهمنا. أو يكون قوله: (ما نبغي) وراء هذا أكبر شيء، إنما نبغي ثمن بعير واحد، و (ذلك كيل يسير) لأنه قد ردت بضاعتنا، وهي ثمن عشرة أبعر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا نَبْغِي} للنفي، أي: ما نبغي في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه... ويجوز أن يراد: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع، بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولما فتحوا} أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام {متاعهم} أي أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت.
ولما كان المفرح مطلق الرد. بنى للمفعول قوله: {ردت إليهم} والوجدان: ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} أي لأبيهم {ياأبانا ما} أي أي شيء {نبغي} أي نريد، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا} ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم: {ردت إلينا} هل فوق هذا من إكرام.
ولما كان التقدير: فنرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا، بنى عليه قوله: {ونمير أهلنا} أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم إنهم {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. ف {قَالُوا} لأبيهم -ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟ {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد الاستقرار من المشوار، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها، ولم يجدوا في رحالهم غلالا! إن يوسف لم يعطهم قمحا، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم. فلما عادوا قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم. وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه. على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين: قالوا: يا أبانا ما نبغى. هذه بضاعتنا ردت إلينا.. ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام: (ونمير أهلنا).. والميرة الزاد، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم.. (ونحفظ أخانا).. ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم: (ونزداد كيل بعير). وهو ميسور لهم حين يرافقهم: (ذلك كيل يسير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قالوا يا أبانا} مستأنفة استئنافاً بيانياً لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنه مفاجأة غريبة، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء...
وجملة {ونزداد كيل بعير} زيادةٌ في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير... وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها...