عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب ، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل ، والتخلخل النفسي والسخف العقلي : ( قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا )فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا ! ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها ) . . وقد حملوا معهم أكداسا من حلي المصريات كانت عارية عند نسائهم فحملنها معهن . فهم يشيرون إلى هذه الأحمال . ويقولون : لقد قذفناها تخلصا منها لأنها حرام .
{ قَالُوا } أي : بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم{[19466]} موسى وقرعهم : { مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي : عن قدرتنا واختيارنا .
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم ، حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي : ألقيناها عنا . وقد تقدم في حديث " الفتون " أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار .
وفي رواية السُّدِّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة{[19467]} ويجعل حجرًا واحدًا . حتى إذا رجع موسى يرى{[19468]} فيه ما يشاء . ثم جاء [ بعد ]{[19469]} ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون - وهو لا يعلم ما يريد - فأجيب له{[19470]} فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا . فكان عجلا له خُوار ، أي : صوت ، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ{[19471]} حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون ، فقال{[19472]} السامري : اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم .
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : [ أعمل ]{[19473]} ما ينفع ولا يضر .
فقالوا - أي : الضُّلال منهم ، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : نسيه هاهنا ، وذهب يتطلبه . كذا تقدم في حديث " الفتون " عن ابن عباس . وبه قال مجاهد .
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فَنَسِيَ } أي : نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فقالوا : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله ، يقول الله : { فَنَسِيَ } أي : ترك ما كان عليه من الإسلام يعني : السامري .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلََكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هََذَآ إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده : عهده الذي كان عهده إليهم ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مَوْعِدِي قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيّناه قبل .
وقوله : بِمِلْكِنا يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «بِمَلْكِنا » بفتح الميم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «بِمُلْكِنا » بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة بِمِلْكِنا بالكسر . فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا ، غير أن أحدهما مصدر ، والاَخر اسم . وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك .
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بأمرنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِمَلْكِنا قال : بأمرنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : بطاقتنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " : أي بطاقتنا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بطاقتنا .
وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حليّ استعاروه من آل فرعون ، وثياب .
وقال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يهلك نفسه ، لغلبة هواه على ما أمر ، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه . فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة ، وأن من ضمها فإنه وجّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه . وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ ، فقال : أيّ ملك كان يومئذٍ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردّها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد .
وقوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " يقول : ولكنا حملنا أثقالاً وأحمالاً من زينة القوم ، يعنون من حليّ آل فرعون وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حلىّ نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم " أفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أمْ أرَدْتُمْ أنْ يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ، وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةٍ القَوْمِ " . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " فهو ما كان مع بني إسرائيل من حليّ آل فرعون ، يقول : خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أوْزَارا قال : أثقالاً . وقوله : مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا " قال : أثقالاً مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : حليهم .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينةِ القَوْمِ " يقول : من حليّ القبط .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " قال : الحليّ الذي استعاروه . والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين : حُمّلْنا بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك . وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : «حَمَلْنا » بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد .
قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
وقوله : فَقَذَفْناها يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامريّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِريّ : كذلك صنع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلِكَ ألْقَى السّامِرِيّ فكذلك صنع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَقَذَفْناها : أي فنبذناها .
{ قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا }
وقعت جملة { قَالُوا } غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جواباً عن كلام موسى عليه السلام . وضمير { قَالُوا } عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم ، تصدّوا مجيبين عن القوم كلّهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم .
وقوله { بمَلْكنا } قرأه نافع ، وعاصم ، وأبو جعفر بفتح الميم . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب بكسر الميم . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بضم الميم . وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة ، ومعناها : بإرادتنا واختيارنا ، أي لإخلاف موعدك ، أي ما تجرّأنا ولكن غرّهم السامريّ وغلبهم دهماء القوم . وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم .
والاستداك راجع إلى ما أفاده نفيُ أن يكون إخلافهم العهدَ عن قصد للضلال . والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حُصول المقصود من التنصّل من تبعة نكث العهد .
ومحل الاستدراك هو قوله { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } وما قبله تمهيد له ، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غُلبوا على رأيهم بتضليل السامريّ . فأُدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما مُوّه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم ، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، ورويس عن يعقوب { حُمّلنا بضمّ الحاء وتشديد الميم مكسورة ، أي حَمّلنَا منْ حَمّلَنا ، أو حَمّلْنا أنفسنا .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ورَوحٌ عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة .
والأوزار : الأثقال . والزينة : الحلي والمصوغ . وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كلّ واحد من جاره القبطي حَلياً فضةً وذهباً وأثاثاً ، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج . والمعنى : أنهم خشُوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون .
والقذف : الإلقاء . وأُريد به هنا الإلقاء في نار السامريّ للصوغ ، كما يومىء إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج . فهذا حكاية جوابهم لموسى عليه السلام مجملاً مختصراً شأنَ المعتذر بعذر وَاهٍ أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام .
ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادراً من قائل الكلام المفرّع عليه . والمعنى : فمثلَ قذفنا زينةَ القوم ، أي في النّار ، ألقى السامريّ شيئاً من زينة القوم فأخرج لهم عجلاً . والمقصود من هذا التشبيه التخلّصُ إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه .