في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

41

وبعد ، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، ويشجعهم على الخروج ، ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف ، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ؛ وهم يرونها تواجه جحافل المشركين ، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ؛ ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة ، مخدوعين بدينهم ، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم :

( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم ) . .

والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل : إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين ، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !

والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ فهم يرون ظواهر الأمور ، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ؛ ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة ، والثقة في الله ، والتوكل عليه ، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم ، مغرورين بدينهم ، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !

إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ؛ والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من " الواقع " الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى ، ويوازن بينها موازنة صحيحة :

( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) . .

هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة ، ويقرر النتيجة ، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .

وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، عن العصبة المسلمة يوم بدر : ( غر هؤلاء دينهم ) . . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .

إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت ، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر ، وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة ، وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ؛ فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ؛ فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين : النصر والغلب ، أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ؛ فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !

والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه ، وأن ترى بنور الله وهداه ، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة ، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله ، وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين :

( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) . .

صدق الله العظيم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

وقوله : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، فظنوا{[13075]} أنهم سيهزمونهم ، لا يشكون في ذلك ، فقال الله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقال قتادة : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله ، وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : والله لا يعبدوا الله بعد اليوم ، قسوة وعتوا .

وقال ابن جُرَيْج في قوله : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم قوم كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر .

وقال عامر الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ }

وقال مجاهد في قوله ، عز وجل : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال : فئة من قريش : [ أبو ]{[13076]} قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } حتى قدموا على ما قدموا عليه ، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم .

وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار ، سواء .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن في هذه الآية ، قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين - قال معمر : وقال بعضهم : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام ، وهم بمكة فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ }{[13077]}

وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : يعتمد على جنابه ، { فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : لا يُضام من التجأ إليه ، فإن الله عزيز منيع الجناب ، عظيم السلطان ، حكيم في أفعاله ، لا يضعها إلا في مواضعها ، فينصر من يستحق النصر ، ويخذل من هو أهل لذلك .


[13075]:في أ: "وظنوا".
[13076]:زيادة من د، ك، أ، وابن هشام والطبري.
[13077]:تفسير الطبري (14/13).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ غَرّ هََؤُلآءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال ، وإذ يقول المنافقون . وكرّ بقوله : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ على قوله : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مِنامِكَ قَلِيلاً . والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني : شكّ في الإسلام لم يصح يقينهم ، ولم تشرح بالإيمان صدورهم . غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ يقول : غرّ هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم دينهم ، وذلك الإسلام . وذكر أن الذين قالوا هذا القول كانوا نفرا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الاَية : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال : كان ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ .

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، مثله .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال : فئة من قريش : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعليّ بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبه بن الحجاج خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : غرّ هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوّهم

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال : هم قوم لم يشدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين . قال معمر : وقال بعضهم : قوم كانوا أقرّوا بالإسلام وهم بمكة ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غرّ هؤلاء دينهم

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ . . . إلى قوله : فإنّ اللّهَ عَزِيزٌ حكِيمٌ قال : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله . وذكر لنا أن أبا جهل عدوّ الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوّا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : ناس كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر ، وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعةَ عَشَرَ رجلاً .

قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، فقلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : غرّ هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فإنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

وأما قوله : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فإن معناه : ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ويرض بقضائه ، فإن الله حافظه وناصره لأنه عزيز لا يغلبه شيء ولا يقهره أحد ، فجاره منيع ومن يتوكل عليه يكفه . وهذا أمر من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم أن يفوّضوا أمرهم إليه ويسلموا لقضائه ، كيما يكفيهم أعداءهم ، ولا يستذلهم من ناوأهم لأنه عزيز غير مغلوب ، فجاره غير مقهور . حِكِيمُ يقول : هو فيما يدبر من أمر خلقه ، حكيم لا يدخل تدبيره خلل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

وقوله تعالى : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } الآية ، العامل في { إذ } { زين } أو { نكص } لأن ذلك الموقف كان ظرفاً لهذه الأمور كلها ، وقال المفسرون إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم وقلة عددهم ، قالوا مشيرين إلى المسلمين { غرَّ هؤلاء دينهم } أي اغتروا فأدخلوا نفوسهم فيما لا طاقة لهم به .

قال القاضي أبو محمد : والنفاق أخص من مرض القلب لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما ، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها ، وروي في نحو هذا التأويل عن الشعبي أن قوماً ممن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر ، منهم من أكره ومنهم من داجى وداهن{[5408]} ، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا واعتقدوا أنهم مغلوبون ، فقالوا { غر هؤلاء دينهم } ، قال مجاهد : منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن أمية{[5409]} .

قال القاضي أبو محمد : ولم يذكر أحد ممن شهد بدراً بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، فإنه القائل يوم أحد { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا }{[5410]} وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة قالوا عن المسلمين هذه المقالة ، فأخبر الله بها نبيه في هذه الآية ، ثم أخبر الله عز وجل بأن من توكل على الله واستند إليه ، فإن عزة الله تعالى وحكمته كفيلة بنصره وشد أعضاده ، وخرجت العبارة عن هذا المعنى بأوجز لفظ وأبلغه .


[5408]:- اختلفت النسخ الخطية في هذه الجملة، فبعضها أسقط كلمة "داجى"، وبعضها أثبتها (جاء)، ومعنى داجى: أخفى ما في نفسه وداراه.
[5409]:- أثبت هذا الاسم الأخير في بعض النسخ: "العاصي بن أمية"، وآثرنا التي تتفق مع ما في الطبري والبحر المحيط.
[5410]:- من الآية (154) من سورة (آل عمران).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

يتعلّق { إذ يقول } بأقرب الأفعال إليه وهو قوله : { زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] مع ما عطف عليه من الأفعال ، لأنّ { إذ } لا تقتضي أكثر من المقارنة في الزمان بين ما تضاف إليه وبين متعلَّقها ، فتعين أن يكون قول المنافقين واقعاً في وقت تزيين الشيطان أعمال المشركين فيتم تعليق وقت قول المنافقين بوقت تزيين الشيطان أعمال المشركين ، وإنّما تُطلب المناسبة لذكر هذا الخبر عقب الذي وَليه هو ، وتلك هي أنّ كلا الخبرين يتضمّن قوّة جيش المشركين ، وضعف جيش المسلمين ، ويقينَ أولياء الشيطان بأنّ النصر سيكون للمشركين على المسلمين . فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين بتأمينهم من عدوّ يخشونه فانحازت إليهم علناً ، وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء . والخبر الثاني : عن طائفتين شوَّهتا صنيع المسلمين حَمَّقتَاهُم ونَسَبَتاهم إلى الغرور فأسرّوا ذلك ولم يبوحوا به ، وتحدّثوا به فيما بينهم ، أو أسرّوه في نفوسهم .

فنَظْم الكلام هكذا : وزيَّن الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلّة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا .

و« القول » هنا مستعمل في حقيقته ومجازه : الشامل لحديث النفس ، لأنّ المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين ، بل هم مَن لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم . فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشكّ في صدق وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير موالين للمنافقين ، ويجوز أن يتحدّثوا به بين جماعتهم .

و« المرض » هنا مجاز في اختلال الاعتقاد ، شبه بالمرض بِوجهِ سوء عاقبته عليهم . وقد تقدّم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في أول [ البقرة : 10 ] .

وأشاروا { بهؤلاء } إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر ، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد ، لأنّهم مذكورون في حديثهم أو مستحضَرون في أذهانهم ، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين .

والغرور : الإيقاع في المضرّة بإيهام المنفعة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غروراً } في سورة [ الأنعام : 112 ] .

والدين هو الإسلام ، وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] الآية ، أي غرّهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير ، والمعنى : إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل حصول النصر . فإطلاق الغرور هنا مجاز ، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية .

وجملة : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } معطوفة على جملة : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم }

[ الأنفال : 48 ] لأنّها من جملة الأخبار المسوقة ؛ لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين ، وللامتنان عليهم ، فالمناسبة بينها وبين الجملة التي قبلها : أنها كالعلّة لخيبة ظنون المشركين ونصرائهم ، أي أنّ الله خيّب ظنونهم لأنّ المسلمين توكّلوا عليه وهو عزيز لا يغلب ، فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره ، وهو حكيم يكوّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر .

والتوكّل : الاستسلام والتفويض ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .

وجعل قوله : { فإن الله عزيز حكيم } جواباً للشرط باعتبار لازمه وهو عزّة المُتَوكِّل على الله وإلفائه منجياً من مضيق أمره ، فهو كناية عن الجواب وهذا من وجوه البيان وهو كثير الوقوع في القرآن ، وعليه قول زهير :

من يلقَ يوما على عِلاته هَرِماً *** يَلْقَ السماحة فيه والندى خُلقا

أي ينل من كرمه ولا يتخلّف ذلك عنه في حال من الأحوال ، وقولُ الربيع بن زياد العبسي :

مَن كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجهِ نهار

يجدِ النساء حواسراً يندبنــه *** بالليل قبل تبلُّج الأسفـار

أي من كان مسروراً بمقتله فسروره لا يدوم إلاّ بعض يوم ثم يحزنه أخذ الثأرِ إمّا من ذلك المسرور إن كان هو القاتل أو من أحد قومه وذلك يُحزن قومه .