ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة : صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - :
( الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة :
قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال : شهدنا أحدا مع رسول الله [ ص ] أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ ص ] بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ ص ] ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ ص ] وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله [ ص ] في الناس بطلب العدو ، وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ ص ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ ص ] فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة ، في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا ، وترضى به وحده وتكتفي ، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة ، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس :
وقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ]{[6221]} } أي : الذين توعدهم الناس [ بالجموع ]{[6222]} وخوفوهم بكثرة الأعداء ، فما اكترثوا لذلك ، بل توكلوا على الله واستعانوا به { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر ، عن أبي حَصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله ، كلاهما عن يحيى بن أبي بُكَير ، عن أبي بكر - وهو ابن عياش - به . والعجب أن الحاكم [ أبا عبد الله ]{[6223]} رواه من حديث أحمد بن يونس ، به ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6224]} .
ثم{[6225]} رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم ، عليه السلام ، حين ألقي في النار : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }{[6226]} .
وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشَّعْبِي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان . رواه ابن جرير .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري{[6227]} أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري ، أنبأنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . فأنزل الله هذه الآية{[6228]} .
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي ، عن أبيه ، عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فنزلت فيهم هذه الآية .
ثم قال ابن مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، أنبأنا أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد ، أنبأنا موسى بن أعين ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " {[6229]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا بَحِير{[6230]} بن سَعْد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن سيف ، عن عوف بن مالك أنه حدثهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال رسول الله{[6231]} صلى الله عليه وسلم : " رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ " . فقال : " ما قلتَ ؟ " . قال : قلتُ : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال رسول الله{[6232]} صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير ، عن خالد ، عن سَيْف - وهو الشامي ، ولم ينسب - عن عوف بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[6233]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا مُطَرِّف ، عن عَطية ، عن ابن عباس [ في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ ، يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ " . فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : فما نقول{[6234]} ؟ قَالَ : " قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا "
وقد روي هذا من غير وجه ، وهو حديث جيد{[6235]} وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب [ بنت جحش ]{[6236]} رضي الله عنهما ، أنهما تفاخرتا فقالت زينب : زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن{[6237]} وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن . فَسَلَّمَت لها زينب ، ثم قالت : كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل ؟ فقالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقالت زينب : قلت كلمة المؤمنين{[6238]} .
ولهذا قال تعالى : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي : لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس من أراد كيدهم ، فرجعوا إلى بلدهم { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } مما أضمر لهم عدوهم { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد ، حدثنا محمد بن نُعَيم ، حدثنا بِشْر بن الحكم ، حدثنا مُبشِّر بن عبد الله بن رَزِين ، حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى{[6239]} { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم سلمُوا ، والفضل أن عيرا مرت ، وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } قال : [ هذا ]{[6240]} أبو سفيان ، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : موعدكم بدر ، حيثُ قتلتم أصحابنا . فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " عَسَى " . فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعِده{[6241]} حتى نزل بدرًا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا{[6242]} فذلك قول الله عز وجل : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] {[6243]} } قال : وهي غزوة بدر الصغرى .
رواه ابن جرير . وروى [ أيضا ]{[6244]} عن القاسم ، عن الحُسَين ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيج قال : لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون{[6245]} قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرْعَبُوهم{[6246]} فيقول المؤمنون : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد ، قال : رَجُل{[6247]} من المشركين فأخبر أهل مَكَّة بخيل محمد ، وقال في ذلك :
نَفَرَتْ قَلُوصِي من خُيول محمد*** وَعَجْوَةٍ منْثُورةٍ كالعُنْجُدِ
واتَّخَذَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
ثم قال ابن جرير : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو : قَد نَفَرَتْ من رفْقَتي محمد*** وَعَجْوَة مِنْ يَثْربٍ كَالعُنْجُد
تَهْوى{[6248]} عَلَى دين أبِيها الأتْلَد*** قَدْ جَعَلَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
وَمَاء ضَجْنَان لَهَا ضُحَى الغَد{[6249]}
{ الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
يعني تعالى ذكره : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ، والذين في موضع خفض مردود على المؤمنين ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأول هم قوم فيما ذكر لنا ، كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلى حمراء الأسد¹ والناس الثاني : هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأُحد ، يعني بقوله : { قَدْ جَمعُوا لَكُمْ } : قد جمعوا الرجال للقائكم ، والكرّة إليكم لحربكم { فاخْشَوْهُمْ } يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم ، { فَزادهُمْ إيمَانا } يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوّفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقينا إلى يقينهم ، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا ثقة بالله ، وتوكلاً عليه ، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين { حَسْبُنا اللّهُ ونِعْم الوكِيل } يعني بقوله : حسبنا الله : كفانا الله ، يعني : يكفينا الله¹ ونعم الوكيل ، يقول : ونعم المولى لمن وليه وكفله¹ وإنما وصف تعالى نفسه بذلك لأن الوكيل في كلام العرب : هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره¹ فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الاَيات قد كانوا فوّضوا أمرهم إلى الله ، ووثقوا به ، وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة ، فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنّ النّاس قَدْ جَمعُوا لَكُمْ } فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذي خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُحد إلى حمراء الأسد في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين .
ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومَن قائله :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، قال : مرّ به ، يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه ، لا يخفون عليه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : والله يا محمد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا في أُحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! لنكرنّ على بقيتهم فلنفرغنّ منهم . فلما رأى أبا سفيان معبدا ، قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط . قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ! فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهَدّ مِنَ الأصْوَات رَاحِلَتِي *** إذْ سالَتِ الأرْضُ بالجُرْدِ الإبابِيلِ
تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَناِبَلةٍ *** عِنْدَ اللّقاءِ وَلا مِيلٍ مَعازِيلِ
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنّ الأرْضَ مائِلَةً *** لَمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْلُ ابنِ حَرْبٍ منْ لِقائِكُمُ *** إذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحاءُ بالجِيلِ
إني نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً *** لكُلّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أحمَدَ لا وَخْشٍ تَنابِلَةٍ *** وَلَيْسَ يُوصَفُ ما أنْذَرْتُ بالقِيلِ
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه¹ ومرّ به ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : ولم ؟ قالوا : نريد المِيرة . قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها ، وأُحَمّلُ لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا : نعم . قال : فإذا جئتموه ، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بَقِيتهم ! فمرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فقال الله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهَ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } . والناس الذين قال لهم ما قالوا : النفر من عبد القيس ، الذين قال لهم أبو سفيان ما قال ، إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم ، يقول الله تبارك وتعالى : { فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } . . . الاَية .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ندموا يعني : أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : ارجعوا فاستأصلوهم ! فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فهزموا ، فلقوا أعرابيا ، فجعلوا له جعلاً : إن لقيت محمدا وأصحابه ، فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم . فأخبر الله جلّ ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابي في الطريق ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ » ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أُحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم وبينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حبال ، فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه إن أنتم وجدتموه في طلبي وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة ! فاستقبلت العيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . ولم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا ، { وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيل } ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أُحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم ، فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس ، فقالوا : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } ، فأنزل الله تعالى فيهم : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } .
وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له في غزوة بدر الصغرى وذلك في مسير النبيّ صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أُحد للقاء عدوّه أبي سفيان وأصحابه للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } قال : هذا أبو سفيان ، قال لمحمد : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال محمد صلى الله عليه وسلم : «عَسَى ! » فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها ، وابتاعوا¹ فذلك قوله تبارك وتعالى : { فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } وهي غزوة بدر الصغرى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه : وهي بدر الصغرى . قال ابن جريح : لما عمد النبيّ صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ، ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : { قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيلُ } حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد . قال : وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه الصلاة والسلام وقال في ذلك :
نَفَرَتْ قَلُوصِي عَنْ خُيولِ مُحَمّدِ *** وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كالعُنْجُدِ
( واتخذتْ ماءَ قُدَيدٍ مَوْعِدِي )
قال أبو جعفر : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو :
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتيْ مُحَمّدِ *** وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثرِبٍ كالعُنْجُدِ
تَهْوِى على دِينِ إبيِها الأتْلَدِ *** قدْ جَعَلَتْ ماءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
*** وَماءَ ضَجْنانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ***
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كانت بدر متجرا في الجاهلية ، فخرج ناس من المسلمين يريدون ، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم : { إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ } ، فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة ، { وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } ، فأتوهم فلم يلقوا أحدا ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : { إنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ } . قال ابن يحيى ، قال عبد الرزاق ، قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، فقال : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيلُ } .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أُحد إلى حمراء الأسد¹ لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } لما قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم ، بقوله : { الّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرّسولِ مِنْ بَعْدِ ما أصَابَهُمُ القَرْحُ } ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد . وأما قول الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى ، فإنه لم يكن فيهم جريج ، إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه ، وبرأ كلمه ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أُحد في شعبان سنة أربع من الهجرة ، وذلك أن وقعة أُحد كانت في النصف من شوّال من سنة ثلاث ، وخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى ، وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أُحد وغزوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى .
{ الذين } صفة للمحسنين المذكورين ، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين حملهم أبو سفيان ذلك ، وقد ذكرته قبل{[3719]} ، ف { الناس } الأول ركب عبد القيس و { الناس } الثاني عسكر قريش ، وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } ، أي ثبوتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال ، وأطلق العلماء عبارة : أن الإيمان يزيد وينقص ، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما ، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال : يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص ، لا سيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ، وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان ، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور النقص بالإضافة إلى الأعلم ، وذهب قوم من العلماء : إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد ، فيقال في ذلك : إنها زيادة في الايمان ، وهذا كما يقال في الكسوة ، إنها زيادة في الإيمان ، وذهب أبو المعالي في الإرشاد : إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره دائباً ، قال : وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، يصحبه حيناً ويفارقه حيناً في الفترة ، فذلك الآخر أكثر إيماناً ، فهذه هي الزيادة والنقص .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا القول نظر{[3720]} .
وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة ، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث ، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان ، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم ، وأخبر بذلك أيضاً أعرابي ، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا { حسبنا الله ونعم الوكيل }{[3721]} فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء ، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا{[3722]} .