ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا - وهم كثرة الناس - على مدار الزمان والرسالات :
( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا ) . .
فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء . ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك - استبعادا لوقوعه واستهزاء - أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم . وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون !
يخبر تعالى عن تمرد{[18290]} الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [ والآثار ]{[18291]} والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا ، كما قال أولئك لنبيهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 187 ] ، وآخرون قالوا : { ائْتِنَا{[18292]} بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ العنكبوت : 29 ] ، وقالت قريش : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الحجر : 7 ، 6 ] إلى غير ذلك [ من الآيات الدالة على ذلك ]{[18293]} .
ثم قال : { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم ، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي : يرونه عيانًا مواجهة [ ومقابلة ]{[18294]} ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } .
يقول عزّ ذكره : وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله ، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته ، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم ، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم ، أو إتيانهم العذاب قُبُلا .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أو يأتيهم العذاب فجأة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : أو يأتيهم العذاب عيانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال : قبلاً معاينة ذلك القبل .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والباء ، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب ، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل ، كما يُجمع القتيل القُتُل ، والجديد الجُدُد . وقرأ جماعة أخرى : «أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم : كلمته قِبَلاً . وقد بيّنت
القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ وما منع الناس أن يؤمنوا } من الإيمان . { إذ جاءهم الهدى } وهو الرسول الداعي والقرآن المبين . { ويستغفروا ربهم } ومن الاستغفار من الذنوب . { إلا أن تأتيهم سنّة الأولين } إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين ، وهي الاستئصال فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه { أو يأتيهم العذاب } عذاب الآخرة . { قُبلاً } عيانا . وقرأ الكوفيون { قُبُلاً } بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع ، وقرئ بفتحتين وهو أيضا لغة يقال لقيته مقابلة وقبلاً وقبلاً وقبلياً ، وانتصابه على الحال من الضمير أو { العذاب } .
عطف على جملة { ولقد صرفنا في هذا القرآن } [ الكهف : 54 ] الخ . ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته ، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس . ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله : وما منع الناس } وبقوله : { إذ جاءهم الهدى } دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها .
على أن عموم { الناس } هنا أشمل من عموم لفظ { الناس } في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } [ الكهف : 54 ] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله .
وكذلك عموم لفظ { الهدى } يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم .
فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير .
والمرد ب { الأولين } السابقون من الأمم في الضلال والعناد . ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمةٌ سبقتها .
و { أن تأتيهم } استثناء مفرغ هو فاعل { وما منع } . « ولن يؤمنوا » منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا .
ومعنى { تأتيهم سنة الأولين } تحل فيهم وتعتريهم ، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم . والمعنى : أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] .
وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر . وإضافة ( سنة ) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سَنّها الأولون . وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة .
والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم .
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته .
و ( أو ) هي التي بمعنى ( إلى ) ، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب } ( بأن ) مضمرة بعد ( أو ) . و ( أو ) متصلة المعنى بفعل { منع } ، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين .
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها .
فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } [ الكهف : 54 ] ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله . وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي فإضافة { سنة } إلى { الأولين } مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستيصال .
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال ، أي على معنى قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا } [ يونس : 102 ] .
وجعلوا قوله : { أو يأتيهم العذاب قبلاً } قسيماً لقوله : { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } ، فحرف ( أو ) للتقسيم ، وفعل { يأتيهم } منصوب بالعطف على فعل { أن تأتيهم سنة الأولين } بالاستيصال المفاجىء أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم . وجعلوا { قِبلاً } حالاً من { العذاب } ، أي مقابلاً . قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر . ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف . ومعناه : أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة . وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتُقصر على معنى التهديد .
والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود ( أن ) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها .
والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال .
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي . والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب . وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال . وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين .
وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر . وهو في معنى قوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] .
و{ قِبَلاً } حال من العذاب . وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { قبلاً } بضمتين وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعاً .