ولقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه . فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) بينما كانت هذه مباحة للمسلمين . ولعلهم جادلوا في هذا الحل . وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة . . وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله .
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب :
( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، ويشترون به ثمنا قليلا ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة . فما أصبرهم على النار ! ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) .
والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولا أهل الكتاب . ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة ، يكتمون الحق الذي يعلمونه ، ويشترون به ثمنا قليلا . إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق ، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ، ويخشون عليها من البيان . وإما هو الدنيا كلها - وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله ، ومن ثواب الآخرة .
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل ، يقول القرآن عن هؤلاء :
( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) . .
تنسيقا للمشهد في السياق . وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم ! وكأنما هم يأكلون النار ! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة ، فإذا هي لهم لباس ، وإذا هي لهم طعام !
وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة ، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله :
( لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ) . .
لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم . . لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران . .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [ مما يشهد له بالرسالة ]{[3075]} { مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد{[3076]} له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ، وهو نزرٌ يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونًا له على قتالهم ، وباؤوا بغضب على غضب ، وذمهم الله في كتابه في غير{[3077]} موضع . من ذلك هذه الآية الكريمة : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ } أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة . كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب
والفضة ، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " {[3078]} .
وقوله : { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لأنه غضبانُ عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، أي يثني{[3079]} عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما .
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَرْدُوَيْه هاهنا [ الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من ]{[3080]} حديث الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ ولهم عذاب أليم ]{[3081]} شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " {[3082]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بقوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُون مَا أنْزَلَ الله مِنَ الكِتابِ أحبار اليهود الذين كتموا الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة بِرشا كانوا أعطوها على ذلك . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّ الذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ الآية كلها : هم أهل الكتاب كتموا ما أنزل الله عليهم وبين لهم من الحق والهدى من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً قال : هم أهل الكتاب كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلام وشأن محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الِكتابِ فهؤلاء اليهود كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِن الكِتابِ والتي في آل عمران : إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيمَانِهِم ثَمَنا قَلِيلاً نزلتا جميعا في يهود .
وأما تأويل قوله : وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فإنه يعني : يبتاعون به . والهاء التي في «به » من ذكر الكتمان ، فمعناه : ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته ثمنا قليلاً .
وذلك أن الذي كانوا يُعطون على تحريفهم كتاب الله وتأويلهموه على غير وجهه وكتمانهم الحق في ذلك ، اليسيرُ من عرض الدنيا . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا عليه طمعا قليلاً ، فهو الثمن القليل .
وقد بينت فيما مضى صفة اشترائهم ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ ما يأكُلُونَ فِي بُطونِهِمْ إلاّ النارَ وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ وَلا يُزَكّيهِمْ وَلهُم عَذَابٌ ألِيم .
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرشوة يعُطوْنها ، فيحرّفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها . ما يأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم بأكلهم ما أكلوا من الرشا على ذلك والجعالة وماأخذوا عليه من الأجر إلاّ النّارِ ، يعني إلا ما يوردهم النار ويصليهموها ، كما قال تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الَيتامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا معناه : ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم . فاستغنى بذكر النار وفهم السامعين معنى الكلام عن ذكر ما يوردهم أو يدخلهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أُولَئِكَ ما يَأكُلُونَ فِي بُطونِهِمْ إلاّ النّار يقول : ما أخذوا عليه من الأجر .
فإن قال قائل : فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال : ما يأكلون في بطونهم ؟ قيل : قد تقول العرب جعت في غير بطني ، وشبعت في غير بطني ، فقيل في بطونهم لذلك كما يقال : فعل فلان هذا نفسه . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع فيما مضى .
وأما قوله : وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ القِيامَةِ يقول : ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون ، فأما بما يسوءهم ويكرهون فإنه سيكلمهم لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم إذا قالوا : رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُون قال : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُون الاَيتين .
وأما قوله : وَلا يُزَكّيهِمْ فإنه يعني : ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم ، وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيم يعني موجع .
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا } عوضا حقيرا . { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } إما في الحال ، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة *** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
يعني الدية . أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار . ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم . يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } عبارة عن غضبه عليهم ، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله . { ولا يزكيهم } لا يثني عليهم . { ولهم عذاب أليم } مؤلم .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 )
وقوله تعالى : { إن الذين يكتمون } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتاب } : التوراة والإنجيل : والضمير في { به } عائد على { الكتاب } ، ويحتمل أن يعود على { ما } وهو جزء من الكتاب ، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب ، ويحتمل أن يعود على الكتمان ، والثمن القليل : الدنيا والمكاسب ، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك لسبب دنيا يصيبها( {[1574]} ) .
وذكرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالة على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطن أيضاً تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم ، وقال الربيع وغيره : سمي مأكولهم ناراً لأنه يؤول بهم إلى النار( {[1575]} ) ، وقيل : معنى الآية : أن الله تعالى يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، وقوله تعالى : { ولا يكلمهم } قيل : هي عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضى عنهم ، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين ، كقوله { اخسؤوا فيها ولا تكلّمون } ( {[1576]} ) [ المؤمنون : 108 ] ، ونحوه ، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك : «فلان لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه » وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه ، وقال الطبري وغيره : المعنى ولا يكلمهم بما يحبون ، وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ، { ولا يزكيهم } معناه : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء ، و { أليم } اسم فاعل بمعنى مؤلم .
عود إلى محاجَّة أهل الكتاب لاَحِقٌ بقوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } [ البقرة : 159 ] بمناسبة قوله : { إنما حرم عليكم الميتة والدم } [ البقرة : 173 ] تحذيراً للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم ؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يَقْرؤا من كتابهم ما غَيَّروا العمل بأحكامه كما قال تعالى : { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } [ الأنعام : 91 ] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } لقصد المشاكلة .
وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام ؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملوناً بلوني الغَرض السابق والغرض اللاحق .
وعُدل عن تعريفهم بغير الموصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخبر وعلته نحو قوله تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] .
والقول في الكتمان تقدم عند قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } [ البقرة : 159 ] والكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب { الذين يكتمون } ، فيشبه أن تكون ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه ، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها .
وقوله : { ويشترون به ثمناً قليلاً } تقدم تفسيره عند قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] وهو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفاً لشرعهم أو على الحكم بذلك ، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضاً عن جور الحاكم وتحريف المفتي .
وقوله : { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } جيء باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبلَ اسم الإشارة ، كما تقدم في قوله تعالى : { أولئك هلى هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ، وهو تأكيد للسببية المدْلول عليها بالموصول ، وفعل { يأكلون } مستعار لأخذ الرُّشَا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال ، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلاّ النارَ لأنه الأصل في المضارع .
والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء ، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يَظهر كحال الرشوة ، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكْلُ نار تعين أن في الكلام مجازاً ، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعني الرشوة ، قال التفتازاني : وهو الذي يوهمه ظاهر كلام « الكشاف » لكنه صرح أخيراً بغيره ، وقيل هو مجاز في الطَّرَف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطْلاقاً للاسم على سببه قال التفتازاني : وهو الذي صرح به في « الكشاف » ونظَّره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يَقْلاَها :
أَكَلْتُ دَماً إنْ لم أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ *** بعيدةٍ مَهْوَى القُرْطِ طيبةِ النَّشْر
أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دماً أي دية دَممٍ فقد تضمن الدعاءَ على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته ، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الديَة عن القتيل ولا يرضون إلاّ بالقَوَد .
واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرُّشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .
قلت : ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غيرَ محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله : ( أعلامُ ياقوْت نشرن على رماححٍ من زبرجد ) فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال : أولئك ما يأخذون إلاّ أخذاً فظيعاً مُهلكاً فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلَّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن ، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] أي على وشك الهَلاك والاضمحلال .
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى : { في بطونهم } فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة ، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله : { يأكلون في بطونهم } مستعملاً في المركب الحقيقي ، وهو لا يصح ، ولولا قوله { في بطونهم } لأمكن أن يقال : إنَّ { يأكلون } هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك .
وجوزوا أن يكون قوله : { يأكلون } مستقبلاً ، أي ما سيأكلون إلاّ النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة ، وهو وجيه ، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله : { يشترون به ثمناً قليلاً } فإن المراد بالثمن هنا الرشوة ، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلاً .
وقوله : { ولا يكلمهم الله } نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب ، فالمراد نفي كلام التكريم ، فلا ينافي قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ الحجر : 93 ] .
وقوله : { ولا يزكيهم } أي لا يُثني عليهم في ذلك المجمع ، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب ؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذٍ سكوت .