وبالنحر ينتهي الإحرام فيحل للحاج حلق شعره أو تقصيره ، ونتف شعر الإبط ، وقص الأظافر والاستحمام . مما كان ممنوعا عليه في فترة الإحرام . وهو الذي يقول عنه : ( ثم ليقضوا تفثهم ، وليوفوا نذورهم )التي نذروها من الذبائح غير الهدي الذي هو من أركان الحج . ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) . . طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات ، وبه تنتهي شعائر الحج . وهو غير طواف الوداع .
والبيت العتيق هو المسجد الحرام أعفاه الله فلم يغلب عليه جبار . وأعفاه الله من البلى والدثور ، فما يزال معمورا منذ إبراهيم عليه السلام ولن يزال .
وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو وضع [ الإحرام ]{[20161]} من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك . وهكذا روى عطاء ومجاهد ، عنه . وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القُرَظي .
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال : التفث : المناسك .
وقوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : نحر ما نذر من أمر البُدن .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } :{[20162]} نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج .
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : الذبائح .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } كل نذر إلى أجل .
وقال عكرمة : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال : [ حجهم .
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : ] {[20163]} نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه : الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به . وروي عن مالك نحو هذا .
وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : قال مجاهد : يعني : الطواف الواجب يوم النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ؟ يقول{[20164]} الله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت .
قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت . وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض{[20165]} .
وقوله : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ؛ لأنه من أصل{[20166]} البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت ، حين قصرت بهم النفقة ؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين ؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حُجْر ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه{[20167]} .
وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ قال ]{[20168]} : لأنه أول بيت وضع للناس . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح .
وقال خَصِيف : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط .
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه . وكذا قال قتادة .
وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة{[20169]} .
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني الليث ، عن عد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار " .
وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري{[20170]} ، عن عبد الله بن صالح ، به{[20171]} . وقال : إن كان صحيحًا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري ، مرسلا{[20172]} .
وقوله : ثُمّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُم ْيقول : تعالى ذكره : ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم : من حلق شعر ، وأخذ شارب ، ورمي جمرة ، وطواف بالبيت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثني يزيد ، قال : أخبرنا الأشعث بن سوار ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : ما هم عليه في الحجّ .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد ، قال : ثني الأشعث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : التفَث : المناسك كلها .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال ، في قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : التفَث : حلق الرأس ، وأخذ من الشاربين ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والموقف بعرفة والمزدلفة .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا خالد ، عن عكرِمة ، قال : التفَث : الشعر والظّفر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرِمة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، أنه كان يقول في هذه الاَية : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ : رمي الجِمار ، وذبح الذبيحة ، وأخذ من الشاربين واللحية والأظفار ، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : هو حلق الرأس . وذكر أشياء من الحجّ قال شعبة : لا أحفظها .
قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : حلق الرأس ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار ، وقصّ الشارب ، ورمي الجمار ، وقصّ اللحية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله . إلا أنه لم يقل في حديثه : وقصّ اللحية .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، قال : سمعت رجلاً يسأل ابن جُرَيج ، عن قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : الأخذ من اللحية ، ومن الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، ورمي الجمار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور ، عن الحسن ، وأخبرنا جويبر ، عن الضحاك أنهما قالا : حلق الرأس .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يعني : حلق الرأس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : التفث : حلق الرأس ، وتقليم الظفر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يقول : نسكهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : التفث : حرمهم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال : يعني بالتفث : وضع إحرامهم من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقصّ الأظفار ونحو ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، قال : التفث : حلق الشعر ، وقصّ الأظفار والأخذ من الشارب ، وحلق العانة ، وأمر الحجّ كله .
وقوله : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يقول : وليوفوا الله بما نذروا من هَدْي وبدنة وغير ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ نحر ما نذروا من البدن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ نذر الحجّ والهَدي ، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحجّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ قال : نذر الحجّ والهدي ، وما نذر الإنسان على نفسه من شيء يكون في الحجّ .
وقوله : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيقِ يقول : وليطوّفوا ببيت الله الحرام .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : العَتِيق في هذا الموضع ، فقال بعضهم : قيل ذلك لبيت الله الحرام ، لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن الزبير ، قال : إنما سمي البيت العتيق ، لأن الله أعتقه من الجبابرة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنما سمي العتيق ، لأنه أعتق من الجبابرة .
قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قَتادة : وَلْيَطّوفوا بالْبَيْتِ العَتِيقِ قال : أُعْتِق من الجبابرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : البَيْتِ العَتِيقِ قال : أعتقه الله من الجبابرة ، يعني الكعبة .
وقال آخرون : قيل له عتيق لأنه لم يملكه أحد من الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد ، عن مجاهد ، قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه ليس لأحد فيه شيء .
وقال آخرون : سمي بذلك لقِدمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : البَيْتِ العَتِيقِ قال : العتيق : القديم ، لأنه قديم ، كما يقال : السيف العتيق ، لأنه أوّل بيت وُضع للناس بناه آدم ، وهو أوّل من بناه ، ثم بوّأ الله موضعه لإبراهيم بعد الغرق ، فبناه إبراهيم وإسماعيل .
قال أبو جعفر : ولك هذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله : البَيْتِ العَتِيقِ وجه صحيح ، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر . غير أن الذي رُوي عن ابن الزبير أولى بالصحة ، إن كان ما :
حدثني به محمد بن سهل البخاري ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : أخبرني الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن الزهريّ ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأنّ اللّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الجَبابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ قَطّ صَحِيحا » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال الزهريّ : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأَنّ اللّهَ أعْتَقَهُ » ثم ذكر مثله .
وعني بالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجّ بيته العتيق به في هذه الاَية طواف الإفاضة الذي يُطاف به بعد التعريف ، إما يوم النحر وإما بعده ، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك . ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن سعيد القرشي ، قال : حدثنا الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيِقِ قال : طواف الزيارة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا الأشعث ، أن الحسن قال في قوله : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيِقِ قال : الطواف الواجب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيِقِ يعني : زيارة البيت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج وعبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيِقِ قال : طواف يوم النحر .
حدثني أبو عبد الرحمن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زُهَيرا عن قول الله : وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيِقِ قال : طواف الْوَداع .
واختلف القرّاء في قراءة هذه الحروف ، فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة «ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُوا » بتسكين اللام في كل ذلك طلب التخفيف ، كما فعلوا في «هو » إذا كانت قبله واو ، فقالوا وَهْوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصّدُورِ فسكّنوا الهاء ، وكذلك يفعلون في لام الأمر إذا كان قبلها حرف من حروف النسق كالواو والفاء وثم . وكذلك قرأت عامة قرّاء أهل البصرة ، غير أن أبا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله : «ثُمّ لِيَقْضُوا » خاصة من أجل أن الوقوف على «ثم » دون «ليقضوا » حسن ، وغير جائز الوقوف على الواو والفاء . وهذا الذي اعتلّ به أبو عمرو لقراءته علة حسنة من جهة القياس ، غير أن أكثر القرّاء على تسكينها .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، أن التسكين في لام «ليقضوا » والكسر قراءتان مشهورتان ولغتان سائرتان ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب . غير أن الكسر فيها خاصة أقيس ، لما ذكرنا لأبي عمرو من العلة ، لأن من قرأ : وَهُوْ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ فهو بتسكين الهاء مع الواو والفاء ، ويحركها في قوله : ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ فذلك الواجب عليه أن يفعل في قوله : «ثُمّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ » فيحرّك اللام إلى الكسر ثم «ثم » وإن سكّنها في قوله : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ . وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ والحسن البصري تحريكها مع «ثم » والواو ، وهي لغة مشهورة ، غير أن أكثر القرّاء مع الواو والفاء على تسكينها ، وهي أشهر اللغتين في العرب وأفصحها ، فالقراءة بها أعجب إليّ من كسرها .
{ ثم ليقضوا تفثهم } ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال . { وليوفوا نذورهم } ما ينذرون من البر في حجهم ، وقيل مواجب الحج . وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء . { وليطوفوا } طواف الركن الذين به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث ، وقيل طواف الوداع . وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما . { بالبيت العتيق } القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى ، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم ليقضوا تفثهم} يعني: حلق الرأس، والذبح، والجمار، {وليوفوا} يعني: لكي يوفوا {نذورهم} في حج، أو عمرة، بما أوجبوا على أنفسهم من هدي أو غيره، {وليطوفوا بالبيت العتيق}، ويقال: العتيق: القديم.
: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج: 29]. 649- يحيى: قال مالك: التفث حلاق الشعر، ولبس الثياب، وما يتبع ذلك...
سئل مالك عن تفسير قول الله: {وليوفوا نذورهم} قال: هو رمي الجمار...
فاحتملت الآية أن تكون على طواف الوداع، لأنه ذكر الطواف بعد قضاء التفث، واحتملت أن تكون على الطواف بعد « منى»، وذلك أنه بعد حلاق الشعر، ولبس الثياب، والتطييب، وذلك: قضاء التفث، وذلك أشبه معنييها بها، لأن الطواف بعد « منى» واجب على الحاج، والتنزيل كالدليل على إيجابه والله أعلم،وليس هكذا طواف الوداع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ثُمّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُم" يقول: تعالى ذكره: ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم: من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بالبيت... عن ابن عمر، قال: التفَث: المناسك كلها...
عن ابن عباس، قوله: "ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ "قال: يعني بالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس، ولبس الثياب، وقصّ الأظفار ونحو ذلك...
وقوله: "وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ" يقول: وليوفوا الله بما نذروا من هَدْي وبدنة وغير ذلك...
وقوله: "وَلْيَطّوّفُوا بالبَيْتِ العَتيقِ" يقول: وليطوّفوا ببيت الله الحرام.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "العَتِيق" في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: قيل ذلك لبيت الله الحرام، لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه... [قاله ابن الزبير].
وقال آخرون: قيل له عتيق لأنه لم يملكه أحد من الناس...
وقال آخرون: سمي بذلك لقِدمه... [قاله ابن زيد].
ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله: "البَيْتِ العَتِيقِ" وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر. غير أن الذي رُوي عن ابن الزبير أولى بالصحة، إن كان ما:
حدثني به محمد بن سهل البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: أخبرني الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهريّ، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأنّ اللّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الجَبابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ قَطّ صَحِيحا»...
وعني بالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجّ بيته العتيق به في هذه الآية طواف الإفاضة الذي يُطاف به بعد التعريف، إما يوم النحر وإما بعده، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال الحسن: التفث في الأصل هو التقشف، وهو ترك الزينة...
وقال أبو عوسجة: التفث في الأصل الوسخ؛ يقال: امرأة تَفِثَةُ إذا كانت خبيثة الريح،... وأهل التأويل يقولون: التفث هو حلق الرأس وقص الأظافر والشارب والرمي والذبح ونحوه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودَهم، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فَمَنْ كان عقدُه التوبة فوفاؤه ألا يرجعَ إلى العصيان. ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ فَشَرْطُ وفائه تركُ تقصيره...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ثم ليقضوا تفثهم} والتفث: الشعث والاغبرار، وقضاؤه بالحلق وقص الشارب والأظافر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وأكد هذا الحث ونفى عنه الريب بعوده إلى الأسلوب الأول في قوله: {ثم ليقضوا} أي يقطعوا وينهوا يوم النحر بعد طول الإحرام {تفثهم} أي شعثهم بالغسل وقص الأظفار والشارب وحلق العانة ونحو ذلك {وليوفوا نذورهم} أخذاً من الفراغ من الأمر والخروج من كل واجب {وليطوفوا} فيكون ذلك آخر أعمالهم، وحث على الإكثار منه والاجتهاد فيه بصيغة التفعل، وعلى الإخلاص بالإخفاء بحسب الطاقة...
وقوله: {بالبيت} أي من ورائه، ليعم الحجر، ومتى نقص عن إكمال الدوران حوله أدنى جزء لم يصح لأنه لم يوقع مسمى الطواف، فلا تعلق بالباء في التبعيض ووصفه بقوله: {العتيق} إشارة إلى استحقاقه للتعظيم بالقدم والعتق من كل سوء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذاناً بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة. والعتيق: المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعاً بدون درج لئلا يدخله إلاّ من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح.