ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار . فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة . فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم ، قبل أن يعتزلهم جميعا :
( وقال : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ، ويلعن بعضكم بعضا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين ) . .
إنه يقول لهم : إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله ، لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ؛ إنما يجامل بعضكم بعضا ، ويوافق بعضكم بعضا ، على هذه العبادة ؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه - حين يظهر الحق له - استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة ! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد ، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه ! وهي الجد كل الجد . الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء .
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة . فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة ، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه . . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام :
( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) . .
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين ، ويكفر الأولياء بالأولياء ، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله ، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه !
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا ، ولا يدفع عن أحد عذابا :
( ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) . .
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فنصره الله منها ونجاه . فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة !
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
يقول لقومه مقرِّعا لهم وموبخا على سوء صنيعهم ، في عبادتهم الأوثان : إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا ، صداقة وألفة منكم ، بعضكم لبعض في الحياة الدنيا . وهذا على قراءة من نصب { مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } ، على أنه مفعول له ، وأما على قراءة الرفع فمعناه : إنما اتخاذكم{[22530]} هذا يُحَصّل لكم المودة في الدنيا فقط { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ينعكس هذا الحال ، فتبقى هذه الصداقة والمودة بَغْضَة وشنآنا ، ف { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي : تتجاحدون ما كان بينكم ، { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أي : يلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون{[22531]} الأتباع ، { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ، وقال هاهنا { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار ، وما لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله . وهذا حال الكافرين ، فأما المؤمنون فبخلاف ذلك .
قال{[22532]} ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي{[22533]} حدثنا أبو عاصم الثقفي [ حدثنا ]{[22534]} الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هُبَيْرة المخزومي ، عن أبيه ، عن جده{[22535]} عن أم هانئ - أخت علي بن أبي طالب - قالت : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبرِك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد ، فَمَنْ يدري أين الطرفان " {[22536]} ، فقالت الله ورسوله أعلم . " ثم ينادي مناد من تحت العرش : يا أهل التوحيد ، فيشرئبون " قال أبو عاصم : يرفعون رؤوسهم . " ثم ينادي : يا أهل التوحيد ، ثم ينادي الثالثة : يا أهل التوحيد ، إن الله قد عفا عنكم " قال : " فيقول الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظُلامات الدنيا - يعني : المظالم - ثم ينادي : يا أهل التوحيد ، ليعف بعضكم عن بعض ، وعلى الله الثواب " {[22537]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه : وَقالَ إبراهيم لقومه : يا قوم إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ فقرأته عامة قرّاء المدينة والشأم وبعض الكوفيين : «مَوَدّةً » بنصب مودة بغير إضافة بينكم بنصبها . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ بنصب المودّة وإضافتها إلى قوله بَيْنِكُمْ ، وخفض بينِكم . وكأن هؤلاء الذين قرءوا قوله : مَوَدّةَ نصبا وجّهوا معنى الكلام إلى : إنما اتخذتم أيها القوم أوثانا مودة بينكم ، فجعلوا إنما حرفا واحدا ، وأوقعوا قوله اتّخَذْتمْ على الأوثان ، فنصبوها بمعنى : اتخذتموها مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، تتحابّون على عبادتها ، وتتوادّون على خدمتها ، فتتواصلون عليها . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة : «مَوَدّةُ بَيْنِكُمْ » برفع المودة وإضافتها إلى البين ، وخفض البين . وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك ، جعلوا «إنّ مَا » حرفين ، بتأويل : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا إنما هو مودّتكم للدنيا ، فرفعوا مودة على خبر إن . وقد يجوز أن يكونوا على قراءتهم ذلك رفعا بقوله «إنما » أن تكون حرفا واحدا ، ويكون الخبر متناهيا عند قوله إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا ثم يبتدىءُ الخبر فيقال : ما مودتكم تلك الأوثان بنافعتكم ، إنما مودّة بينكم في حياتكم الدنيا ، ثم هي منقطعة ، وإذا أريد هذا المعنى كانت المودّة مرفوعة بالصفة بقوله فِي الحَياةِ الدّنْيا وقد يجوز أن يكونوا أرادوا برفع المودّة ، رفعها على ضمير هي .
وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني ، لأن الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها ، اتخذوها مودة بينهم ، وكانت لهم في الحياة الدنيا مودة ، ثم هي عنهم منقطعة ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، وشهرة القراءة بكلّ واحدة منهنّ في قرّاء الأمصار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَقالَ إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَياةِ الدنْيا ، ثمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ ببَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا قال : صارت كلّ خُلّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلاّ خُلّة المتقين .
وقوله : ثُمّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا يقول تعالى ذكره : ثم يوم القيامة أيها المتوادّون على عبادة الأوثان والأصنام ، والمتواصلون على خدماتها عند ورودكم على ربكم ، ومعاينتكم ما أعدّ الله لكم على التواصل ، والتوادّ في الدنيا من ألم العذاب يَكْفر بعضكم ببعض يقول : يتبرأ بعضكم من بعض ، ويلعن بعضُكم بعضا .
وقوله : ومَأْوَاكُمُ النّارُ يقول جلّ ثناؤه : ومصير جميعكم أيها العابدون الأوثان وما تعبدون النارُ ومَا لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول : وما لكم أيها القوم المتخذو الاَلهة ، من دون الله مودّة بينكم من أنصار ينصرونكم من الله حين يصليكم نار جهنم ، فينقذونكم من عذابه .