في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

أم إن الناس في ريب من البعث ? وفي شك من زلزلة الساعة ? إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين :

( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا ؛ ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . )

إن البعث إعادة لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .

ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك . ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه .

فما هؤلاء الناس ? ما هم ? من أين جاءوا ? وكيف كانوا ? وفي أي الأطوار مروا ?

( فإنا خلقناكم من تراب ) . . والإنسان ابن هذه الأرض . من ترابها نشأ ، ومن ترابها تكون ، ومن ترابها عاش . وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض . اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب . ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء . وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب .

ولكن أين التراب وأين الإنسان ? أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ، الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب . .

إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب !

( ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا . . . ) .

والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم . سر الحياة . السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين . والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب المحال !

ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى إنسان ! فما تلك النطفة ? إنها ماء الرجل . والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية . وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم ، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم .

وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي . . في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة وصحة . . كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات . .

فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة ? وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان ? !

ومن العلقة إلى المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا . ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام .

( لنبين لكم ) . . فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة : ( لنبين لكم ) . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة . وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن .

ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين : ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى )فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع . ( ثم نخرجكم طفلا ) . . ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير !

إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر . ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل . النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ، والميول والنزعات . .

إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات . .

ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام ، في خفية عن الأنظار !

( ثم لتبلغوا أشدكم ) . . فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم النفسي . . وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان ! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين !

ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . .

فاما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي . وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال . فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال . . إذا هو يرتد طفلا . طفلا في عواطفه وانفعالاته . طفلا في وعيه ومعلوماته . طفلا في تقديره وتدبيره . طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه . طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا . طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل !

ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان .

( وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) .

والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء ( اهتزت وربت )وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات ( من كل زوج بهيج ) . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود ?

وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته . وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة . وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك .

في الأرض والنبات والحيوان والإنسان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

لما ذكر تعالى المخالف للبعث ، المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد ، بما يشاهد من بدئه للخلق{[20002]} ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي : في شك { مِنَ الْبَعْثِ } وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أي : أصل بَرْئه{[20003]} لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم ، عليه السلام { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة ، مكثت أربعين يوما كذلك ، يضاف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث كذلك أربعين يوما ، ثم تستحيل فتصير مضغة - قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل والتخطيط ، فيصور منها رأس ويدان ، وصدر وبطن ، وفخذان ورجلان ، وسائر الأعضاء . فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : كما تشاهدونها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق . فإذا مضى عليها أربعون يوما ، وهي مضغة ، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ{[20004]} فيها الروح ، وسواها كما يشاء الله عز وجل{[20005]} ، من حسن وقبيح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو سعيد ، كما ثبت في الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - : " إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مُضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : بكتب عمله وأجله ورزقه ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح " {[20006]} .

وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها{[20007]} ملك بكفه قال{[20008]} : يا رب ، مخلقة أو غير

مخلقة ؟ فإن قيل : " غير مخلقة " لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام دما . وإن قيل : " مخلقة " ، قال : أي رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثر ؟ وبأي أرض يموت{[20009]} ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله . فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله . فيقال له : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة . قال : فتخلق فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت ، فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ، فيقول : أي رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله ، ويكتبان ، فيقول : أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص{[20010]} .

ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، ومن طرق أخر ، عن أبي الطُّفَيل ، بنحو معناه{[20011]} .

وقوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا } أي : ضعيفا في بدنه ، وسمعه وبصره وحواسه ، وبطشه وعقله . ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ، ويلطف{[20012]} به ، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : يتكامل{[20013]} القوى ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر .

{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } ، أي : في حال شبابه وقواه ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم ، وتناقص الأحوال من الخَرَف{[20014]} وضعف الفكر ؛ ولهذا قال : { لِكَيْلا{[20015]} يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ] .

وقد قال الحافظ أبو يعلى [ أحمد ] {[20016]} بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم{[20017]} ، حدثنا خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري ، عن أنس بن مالك - رفع الحديث - قال : " المولود حتى يبلغ الحنث ، ما عمل من حسنة ، كتبت لوالده أو لوالدته{[20018]} وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص . فإذا بلغ الخمسين ، خفف الله حسابه . فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ أرذل العمر { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه " {[20019]} .

هذا حديث غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة . ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال :

حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر ، عن محمد بن عبد الله العامري{[20020]} ، عن عمرو بن جعفر ، عن أنس قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ، أمنه الله من أنواع البلايا ، من الجنون والجذام والبرص{[20021]} ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله ، وأحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ، ومحا عنه سيئاته ، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله في الأرض ، وشفع في أهله{[20022]} .

ثم قال : حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله{[20023]} .

ورواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي ذرة{[20024]} الأنصاري ، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص{[20025]} . . . . . وذكر تمام الحديث ، كما تقدم سواء{[20026]} .

ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الله بن شبيب ، عن أبي شيبة ، عن عبد الله بن عبد الملك{[20027]} ، عن أبي قتادة العُذْري ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله ، وأحبه أهل السماء{[20028]} ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسُمي أسير الله في أرضه ، وشفع في أهل بيته " {[20029]} .

وقوله : { وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً } : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى ، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة ، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء{[20030]} .

وقال قتادة : غبراء متهشمة . وقال السدي : ميتة .

{ فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : فإذا أنزل الله عليها المطر { اهْتَزَّتْ } أي : تحركت وحييت بعد موتها ، { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون ، من ثمار وزروع ، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها ، وروائحها وأشكالها ومنافعها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر طيب الريح .


[20002]:- في ت : "بما شاهد من بين يديه للخلق" ، وفي ف : "بما يشاهده من بين يديه للخلق".
[20003]:- في ت ، ف : "تربه".
[20004]:- في أ : "فينفخ".
[20005]:في ف ، أ : "الله تعالى".-
[20006]:- صحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643).
[20007]:- في هـ ، ت ، ف : "جاءها" ، والمثبت من الدر المنثور 3/345.
[20008]:- في ت ، ف : "فقال".
[20009]:- في ف : "تموت".
[20010]:- في ف : "ولا ينقص".
[20011]:- صحيح مسلم برقم (2644).
[20012]:- في أ : "ويتلطف".
[20013]:- في ت : "تتكامل".
[20014]:في ت ، ف ، أ : "من الحزن".-
[20015]:- في ت : "لا".
[20016]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[20017]:- في أ : "ابن أبي عاصم".
[20018]:- في ت ، ف : "لوالديه".
[20019]:- مسند أبي يعلى (6/352).
[20020]:- في ت ، ف : "العاملي".
[20021]:في ف : "البرص والجذام".-
[20022]:- المسند (2/89).
[20023]:- المسند (2/89)
[20024]:- في هـ ، ت ، ف : "أبي بردة" ، والتصويب من كتب الرجال.
[20025]:- في ت : "أو الجذام أو البرص".
[20026]:- المسند (3/217) وفي إسناده يوسف بن أبي ذرة وهو ضعيف.
[20027]:- في ت : "عبد الله بن مالك".
[20028]:- في أ : "السموات".
[20029]:- مسند البزار برقم (3588) "كشف الأستار".
[20030]:- في ت : "التي لا ينبت فيهات شيئا".