في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ} (14)

وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة . ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :

( ووصينا الإنسان بوالديه ، حملته أمه وهنا على وهن ، وفصاله في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا ، واتبع سبيل من أناب إلي . ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) . .

وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا . ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه . فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشىء لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان ! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان ! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة ! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة ، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة ! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما . وهذه الصورة الموحية : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين )ترسم ظلال هذا البذل النبيل . والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق . . روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? قال : " لا . ولا بزفرة واحدة " . هكذا . . ولا بزفرة . . في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن .

وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين . . ( أن اشكر لي ولوالديك ) . . ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : ( إلي المصير )حيث ينفع رصيد الشكر المذخور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ} (14)

ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين . كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] . وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن .

وقال هاهنا { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } . قال مجاهد : مشقة وَهْن الولد .

وقال قتادة : جهدًا على جهد .

وقال عطاء الخراساني : ضعفا على ضعف .

وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي : تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ، كما قال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] .

ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] .

وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارًا ، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 24 ] ؛ ولهذا قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : فإني سأجزيك{[22952]} على ذلك أوفر الجزاء .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ، ومحمود بن غَيْلان قالا حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق{[22953]} عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إني [ رسول ] {[22954]} رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرًا ، وأن المصير إلى الله ، وإلى الجنة أو إلى النار ، إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت .


[22952]:- في أ: "سأجازيك".
[22953]:- في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
[22954]:- زيادة من ت، أ.