ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . [ رأي المشركين ] الذين يفترون على الله الكذب ، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب ، ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم ، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؟ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون ، بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم ، وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي ؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول [ ص ] وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذين قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله [ ص ] وأنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون " : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) دعاه النبي [ ص ] فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : ( تبارك الله أحسن الخالقين ) . فقال : رسول الله [ ص ] : " هكذا أنزلت علي " . . فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ! فارتد عن الإسلام ، ولحق بالمشركين . فذلك قوله : ( ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ رواه الكلبي عن ابن عباس ] . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين [ أي المشركين ] مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب ، وهم يطلبون أرواحهم للخروج ! وهم يتابعونهم بالتأنيب :
( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . . )
وجزاء الاستكبار العذاب المهين ، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة ، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق !
يقول تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شريكا أو ولدا ، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله ؛ ولهذا قال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ }
قال عِكْرِمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب [ لعنه الله ]{[10964]}
{ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ } يعني : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ]{[10965]} } [ الأنفال : 31 ] ، قال الله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي : في سكراته وغمراته وكُرُباته ، { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب كما قال : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ ] }{[10966]} الآية [ المائدة : 28 ] ، وقال : { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } الآية [ الممتحنة : 2 ] .
وقال الضحاك ، وأبو صالح : { بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالعذاب . وكما قال [ تعالى ]{[10967]} { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] ؛ ولهذا قال : { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم ؛ ولهذا يقولون لهم : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال ، والأغلال والسلاسل ، والجحيم والحميم ، وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ] }{[10968]} أي : اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته ، والانقياد لرسله .
وقد وردت أحاديث [ متواترة ]{[10969]} في كيفية احتضار المؤمن والكافر ، وهي مقررة عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ إبراهيم : 27 ] .
وقد ذكر ابن مَرْدُوَيه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعا ، فالله أعلم{[10970]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.